الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تدريب الرَّاوي في شَرْح تَقْريب النَّواوى ***
الجزء الأول بسم الله الرحمن الرحيم الحمدُ لله الَّذي جعلَ أسْبَاب من انقطع إليه موصُولة، ورفع مقام الواقف ببابه، وأتاهُ مُنَاه وسُؤله، وأدرجَ في زُمْرة أحْبَابه من لم تَكُن نفسه بزخَارف المُبْطلين معْلُولة، وأشْهدُ أن لا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريك له، شَهَادة برداء الإخلاص مَشْمولة، وللملكوت الأعْلَى صَاعدة مقبولة، وأشهدُ أنَّ سيدنا مُحمَّدًا عبدهُ ورَسُوله، الَّذي بلغ به من إكمال الدِّين مأموله، وأتاهُ جوامع الكلم، فنطَقَ بجواهر الحُكم، وفاحت من حدائق أحاديثه في الخافقين شَذَا أزْهَارها المَطْلُولة، صلَّى الله عليه وعلى آله وصَحْبه، ذَوِي الأصُول الكَرِيمة، والأمْجَاد المأثُولة. أمَّا بعد: فإنَّ علم الحديث رفيع القَدْر، عظيم الفخر، شريف الذِّكر، لا يعتني به إلاَّ كل حبر، ولا يُحْرمه إلاَّ كل غمر، ولا تفنى مَحَاسنهُ على ممر الدَّهر، وكنتُ ممَّن عبر إلى لُجَّة قامُوسه، حيثُ وقفَ غيري بشاطئه، ولم اكتف بورُود مَجَاريه، حتَّى بقرتُ عن مَنْبعه ومَنَاشئه، وقلتُ لمن على الرَّاحة عول، مُتمثلاً بقول الأوَّل: لسْنَا وإن كُنَّا ذوي حسب *** يَوْمًا على الأحْسَاب نتكلُ نبني كما كانت أوائلنا *** تبنى ونفعل مثل ما فعلُوا مع ما أمدَّني الله تعالى به من العُلوم، كالتَّفسير الَّذي به يُطَّلع على فهم الكتاب العزيز، وعُلومه الَّتي دونتها، ولم أُسبق إلى تحريرها الوجيز، والفقه الَّذي مَنْ جهلهُ فأنَّى له الرِّفعة والتَّمييز، واللغة الَّتي عليها مدار فهم السُّنة والقُران، والنحو الَّذي يُفتضح فاقده بكثرة الزَّلل، ولا يصلح الحديث للحَّان، إلى غير ذلك من عُلوم المعاني والبيان، التي لبلاغة الكتاب والحديث تِبْيان، وقد ألَّفتُ في كلِّ ذلك مُؤلفات، وحرَّرتُ فيها قواعد ومُهمات، ولم أكن كغيري مِمَّن يدَّعى الحديث بغير علم، وقصارى أمره كَثْرة السَّماع على كلِّ شيخ وعجُوز، غير مُلتفت إلى مَعْرفة ما يحتاج المُحدِّث إليه أن يحوز، ولا مُكْترث بالبحث عمَّا يمنع أو يَجُوز، ثمَّ ظنَّ الانْفراد بجمع الكُتب، والضَّن بها على طُلابها، فهو كَمثل الحِمَار يحمل أسْفَارًا، عاريًا عن الانتفاع بخطابها، إن سُئل عن مَسْألة في المُصْطلح لم يهتد إلى جوابها، أو عرضت له مَسْألة في دينه لم يعرف خطأها من صَوَابها، أو لو تلفَّظ بكلمة من الحديث، لم يأمن أن يزل في إعْرَابها، فصار بذلك ضحكة للنَّاظرين، وهُزأة للسَّاخرين، والله تعالى حسبي وهو خير النَّاصرين. هذا، وقد طال ما قيدتُ في هذا الفن، فوائد وزوائد، وعلقتُ فيه نوادر وشوارد، وكان يخطر ببالي جمعها في كتاب، ونظمها في عقد لينتفع بها الطُّلاب، فرأيتُ كتاب «التقريب والتيسير» لشيخ الإسْلام الحافظ، ولي الله تعالى أبي زكريا النواوي، كتابًا جل نفعه، وعلا قدره، وكَثُرت فوائده، وغَزُرت للطالبين موائده، وهو مع جَلالته، وجلالة صاحبه، وتطاول هذه الأزْمَان، من حين وضعه، لم يتصدَّ أحد إلى وضع شرح عليه، ولا الإنابة إليه، فقلتُ لعلَّ ذلك فضل ادَّخر الله تعالى لمن يشاء من العبيد، ولا يكون في الوجُود إلاَّ ما يُريد، فقوي العَزْم على كِتَابة شرح عليه، كافل بإيضَاح مَعَانيه، وتَحْرير ألفاظه ومَبَانيه، مع ذِكْر ما بينه وبين أصله، من التفاوت، في زيادة أو نَقْص، أو إيراد أو اعْتراض، مع الجَوَاب عنهُ، إن كانَ مُضيفًا إليه زوائد عَلِيَّة، وفوائد جَليِّة، لا تُوجد مَجْموعة في غيره، ولا سار أحد قبله كسيره، فشرعتُ في ذلك، مُستعينًا بالله تعالى، ومُتوكلاً عليه، وحبَّذا ذاكَ اتِّكالاً، وسمَّيتهُ «تدريب الرَّاوي في شَرْح تَقْريب النَّواوى» وجعلتهُ شَرْحًا لهذا الكتاب خُصوصًا، ثمَّ لمُخْتصر ابن الصَّلاح، ولسائر كُتب الفن عُمومًا. والله تعالى أسأل أن يَجْعلهُ خالصًا لوجهه، فهو بإجَابة السَّائل أحرى، وينفع به مُؤلفه وقارئه، في الدُّنيا والأُخرى، وهذه المُقدمة فيها فوائد: الأولى: في حدِّ علم الحديث وما يتبعهُ: قال ابن الأكْفَافي، في كتاب «إرشاد القاصد» الذي تكلم فيه على أنواع العلوم: علم الحديث الخاص بالرواية، علم يشتمل على نقل أقوال النَّبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله، وروايتها، وضبطها، وتحرير ألفاظها، وعلم الحديث الخاص بالدِّراية، علمٌ يعرف منه حقيقة الرِّواية، وشُروطها، وأنواعها، وأحْكَامها، وحال الرُّواة، وشُروطهم وأصْنَاف المرويات، وما يتعلق بها. انتهى. فحقيقةُ الرِّواية: نقل السُّنة ونحوها، وإسناد ذلك إلى من عُزِيَ إليه بتحديث، أو إخبار، أو غير ذلك، وشُروطها: تحمل راويها لما يرويه بنوع من أنواع التحمُّل، من سَمَاع، أو عرض، أو إجَازة، ونحوها، وأنواعها: الاتِّصَال والانقطاع ونحوهما، وأحكامها: القَبُول والرَّد، وحال الرُّواة: العَدَالة والجرح، وشُروطهم في التحمُّل، وفي الأداء كما سيأتي. وأصْنَاف المَرْويات: المُصنفات من المسانيد، والمعاجم، والأجزاء، وغيرها، أحاديثًا، وأثارًا، وغيرهما، وما يتعلَّق بهما: هو معرفة اصْطلاح أهلها. وقال الشَّيخ عز الدِّين بن جماعة: علم الحديث علم بقوانين، يُعرف بها أحوال السند والمتن. وموضوعه: السَّند والمتن، وغايته: معرفة الصَّحيح من غيره. وقال شيخ الإسلام أبو الفضل بن حجر: أولى التعاريف له أن يُقال: معرفة القواعد، والمعرفة بحال الرَّاوي والمروي. قال: وإن شئت حذفت لفظ: معرفة، فقلت: القواعد، إلى آخره. وقال الكِرْماني في «شرح البخاري»: واعلم أنَّ الحديث موضُوعه ذات رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، من حيث إنَّه رَسُول الله، وحَدُّهُ: هو علم يُعرف به أقْوَال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله وأحواله، وغايته: هو الفوز بسعادة الدَّارين. وهذا الحد مع شُموله لعلم الاستنباط غير محرر، ولم يزل شيخنا العلامة مُحيي الدِّين الكافيجي، يُتعجَّب من قوله: إنَّ موضوع علم الحديث ذات الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، ويقول: هذا موضوع الطب، لا موضوع الحديث. وأمَّا السَّند، فقال البدر بن جماعة والطيبي: هو الإخبار عن طريق المتن. قال ابن جَمَاعة: وأخذه إمَّا من السند، وهو ما ارتفع وعلا من سفح الجبل، لأنَّ المُسْنِدَ يرفعه إلى قائله، أو من قولهم: فُلان سند، أي معتمد، فسُمي الإخبار عن طريق المتن سندًا، لاعتماد الحُفَّاظ في صحَّة الحديث وضعفه عليه. وأمَّا الإسْنَاد فهو رفع الحديث إلى قائله. قال الطيبى: وهُمَا مُتقاربان في معنى اعتماد الحُفَّاظ في صحَّة الحديث وضعفه عليهما. وقال ابن جَمَاعة: المُحدِّثُون يستعملون السَّند والإسناد لشيء واحد. وأمَّا المسنَد- بفتح النُّون- فله اعتبارات: أحدها: الحديث الآتي تعريفه في النَّوع الرَّابع من كلام المُصنِّف. الثَّاني: الكِتَاب الَّذي جمع فيه ما أسندهُ الصَّحابة، أي رووه، فهو اسم مفعول. الثَّالث: أن يُطلق ويُراد به الإسناد، فيكُون مصدرًا، كمسند الشهاب ومسند الفردوس: أي أسانيد أحاديثهما. وأمَّا المتن، فهو ألفاظ الحديث التي تتقوَّم بها المعاني. قاله الطيبي. وقال ابن جماعة: هو ما ينتهي إليه غاية السَّند من الكلام، وأخذه إمَّا من المُمَاتنة، وهي: المُبَاعدة في الغاية، لأنَّه غاية السَّند، أو من متنت الكبش: إذا شققت جلدة بيضته واستخرجتها، فكأنَّ المُسند استخرج المتن بسنده، أو من المتن، وهو: ما صَلُبَ وارتفع من الأرض، لأنَّ المُسند يقويه بالسَّند ويرفعه إلى قائله، أو من تمتَّن القوس أي شدَّها بالعصب، لأنَّ المسنِدَ يقوِّي الحديث بسنده. وأمَّا الحديث فأصله: ضد القديم، وقد استعمل في قليل الخبر وكثيره، لأنَّه يحدث شيئا فشيئا. وقال شيخ الإسلام ابن حجر في «شرح البخاري»: المُراد بالحديث في عُرف الشَّرع ما يُضَاف إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم، وكأنَّه أُريد به مُقَابلة القُرآن لأنَّه قديم. وقال الطيبي: الحديث أعم من أن يكُون قول النَّبي صلى الله عليه وسلم والصَّحابي والتابعي وفعلهم وتقريرهم. وقال شيخ الإسلام في «شرح النُّخبة»: الخبر عند عُلماءِ الفن مُرادف للحديث، فيُطْلقان على المَرْفُوع، وعلى الموقوف والمقطُوع. وقيل: الحديث ما جَاء عن النَّبي صلى الله عليه وسلم، والخبر ما جاء عن غيره، ومن ثَمَّ قيل لمن يشتغل بالسُّنة: مُحدِّث، وبالتواريخ ونحوها: أخباري. وقيل: بينهما عُموم وخصوص مُطلق، فكل حديث خبر، ولا عكس. وقيل: لا يُطلق الحديث على غير المرفوع إلاَّ بشرط التقييد. وقد ذكر المُصنِّف في النَّوع السابع: أنَّ المُحدِّثين يُسمُّون المرفوع والموقُوف بالأثر، وأن فُقهاء خُراسان يُسمُّون الموقوف بالأثر، والمرفوع بالخبر، ويُقال: أثرت الحديث، بمعنى رويتهُ، ويُسمَّى المُحدِّث أثريًا نسبة للأثر. الثَّانية: في حَدِّ الحافظ والمُحدِّث والمُسند. اعلم أنَّ أدْنَى درجات الثَّلاثة، المُسنِد بكسر النُّون، وهو من يروي الحديث بإسْنَاده، سواء كان عنده علم به، أو ليس له إلاَّ مُجرَّد رواية، وأمَّا المُحدِّث فهو أرفع منهُ. قال الرَّافعي وغيره: إذا أوصي للعلماء لم يدخل الذين يسمعون الحديث، ولا علم لهم بطُرقه، ولا بأسماء الرُّواة والمُتُون، لأنَّ السَّماع المُجرَّد ليس بعلم. وقال التَّاج بن يونس في «شرح التعجيز»: إذا أوصي للمُحدِّث تناول من عَلِمَ طرق إثبات الحديث وعدالة رِجَاله، لأنَّ من اقتصر على السَّماع فقط ليس بعالم. وكذا قال السُّبْكى في «شرح المنهاج». وقال القاضي عبد الوهاب: ذكر عيسى بن أبان عن مالك أنَّه قال: لا يُؤخذ العلم عن أربعة، ويُؤخذ عمَّن سِوَاهم: لا يُؤخذ عن مُبتدع يدعو إلى بِدْعته، ولا عن سفيه يعلن بالسَّفه، ولا عَمَّن يكذب في أحاديث النَّاس، وإن كان يصدق في أحاديث النَّبي صلى الله عليه وسلم، ولا عمَّن لا يعرف هذا الشَّأن. قال القاضى: فقوله: ولا عمَّن لا يعرف هذا الشَّأن، مُرَاده به إذا لم يكن مِمَّن يعرف الرِّجال من الرُّواة، ولا يعرف هل زيد في الحديث شيء أونقص؟ وقال الزَّرْكشي: أمَّا الفُقهاء، فاسم المُحدِّث عندهم لا يطلق إلاَّ على من حفظ متن الحديث، وعلم عدالة رِجَاله وجرحها، دُون المُقْتصر على السَّماع. وأخرج ابن السَّمعاني في «تاريخه» بسنده عن أبي نصر الحُسين بن عبد الواحد الشِّيرازي قال: العالم الَّذي يعرف المَتْن والإسناد جميعًا، والفقيه الَّذي عرف المتن ولا يعرف الإسناد، والحافظ: الَّذي يعرف الإسناد ولا يعرف المتن، والرَّاوى الَّذي لا يعرف المتن، ولا يعرف الإسناد. وقال الإمام الحافظ أبو شامة: علوم الحديث الآن ثلاثة: أشْرَفها: حفظ مُتُونها، ومعرفة غريبها وفقها. والثَّاني: حفظ أسانيدها، ومعرفة رجالها، وتمييز صحيحها من سقيمها، وهذا كان مُهمًا، وقد كفيه المُشتغل بالعلم بما صنَّف فيه، وألَّف فيه من الكُتب، فلا فائدة إلى تحصيل ما هو حاصل. والثَّالث: جمعهُ، وكِتَابته، وسماعه، وتطريقه، وطلب العلو فيه، والرِّحلة إلى البلدان، والمشتغل بهذا مشتغل عمَّا هو الأهم من العلوم النَّافعة، فضلاً عن العمل به، الَّذي هو المطلوب الأصل، إلاَّ أنَّه لا بأس به لأهل البَطَالة؟ لما فيه من بقاء سلسلة الإسناد المُتَّصلة بأشرف البشر صلى الله عليه وسلم. قال: ومِمَّا يزهد في ذلك أنَّ فيه يتشارك الكبير والصَّغير، والفدم والباهم، والجاهل والعالم. وقد قال الأعمش: حديث يتداولهُ الفُقهاء خير من حديث يتداوله الشيوخ. ولام إنسان أحمد في حضُور مَجْلس الشَّافعي وتركه مَجْلس سُفيان بن عُيينة، فقال له أحمد: اسكت فإن فاتك حديث بعلو تجده بنزول ولا يضرك، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف أن لا تجده. انتهى. قال شيخ الإسلام: وفي بعض كلامه نظر، لأنَّ قوله: وهذا قد كفيه المُشتغل بما صنَّف فيه قد أنكرهُ العلامة أبو جعفر بن الزُّبير وغيره، ويُقال عليه: إن كان التصنيف في الفن يُوجب الاتكال على ذلك، وعدم الاشتغال به، فالقول كذلك في الفنِّ الأوَّل، فإنَّ فقه الحديث وغريبه لا يحصى كم صُنَّف فيه، بل لو ادَّعى مُدع أنَّ التَّصانيف فيه أكثر من التصانيف في تمييز الرِّجال، والصَّحيح من السَّقيم لمَا أبعد، بل ذلك هو الواقع، فإن كان الاشتغال بالأوَّل مُهما، فالاشتغال بالثاني أهم، لأنَّه المرقاة إلى الأوَّل، فمن أخل به خلط السَّقيم بالصَّحيح، والمُعدَّل بالمُجرَّح، وهو لا يشعر. قال: فالحق أنَّ كُلاًّ منهما في علم الحديث مهم، ولا شكَّ أنَّ من جمعهما حاز القدح المعلى مع قصور فيه إِن أخلَّ بالثالث، ومن أخلَّ بهما فلا حظ له في اسم الحُفَّاظ، ومن أحرز الأوَّل وأخلَّ بالثاني كان بعيدًا من اسم المُحدِّث عُرفًا، ومن أحرز الثَّاني، وأخلَّ بالأوَّل لم يبعد عنه اسم المُحدِّث، ولكن فيه نقص بالنِّسبة إِلى الأوَّل، وبقي الكلام في الفنِّ الثالث. ولا شكَّ أنَّ من جمع ذلك مع الأوَّلين كان أوفر سهمًا وأحظ قسمًا، ومن اقتصر عليه كان أخسَّ حظًّا وأبعد حفظًّا، فمن جمع الثلاثة كان فقيهًا مُحدِّثا كاملاً، ومن انفرد باثنين منهما كان دونه، إلاَّ أنَّ من اقتصر على الثَّاني والثَّالث فهو مُحدِّث صرف، لا حظ له في اسم الفقيه، كما أنَّ من انفرد بالأوَّل، فلا حظَّ له في اسم المُحدِّث، ومن انفرد بالأوَّل والثاني فهل يُسمى مُحدثًا؟ فيه بحث. انتهى. وفي غُضُون كلامه ما يُشْعر باستواء المُحدِّث والحافظ، حيث قال: فلا حظ له في اسم الحافظ، والكلام كله في المُحدِّث. وقد كان السَّلف يُطْلقون المُحدِّث والحافظ بمعنى، كما روى أبو سعد السَّمعاني بسنده إلى أبى زُرْعة الرَّازي: سمعتُ أبا بكر بن أبى شَيْبة يقول: من لم يكتب عشرين ألف حديث إملاء، لم يُعد صاحب حديث. وفي «الكامل» لابن عَدِي من جهة النُّفيلى، قال: سمعتُ هُشيمًا يقول: من لم يحفظ الحديث فليس هو من أصحاب الحديث. والحق أنَّ الحافظ أخص، وقال التاج السُّبْكى في كِتَابه «مُعيد النعم»: من النَّاس فرقة ادَّعت الحديث، فكان قصارى أمرها النَّظر في «مشارق الأنوار» للصَّاغانى، فإن تَرَفَّعَت ارتقت إلى «مصابيح» البغوي، وظنَّت أنَّها بهذا القدر تصل إلى درجة المُحدِّثين، وما ذلك إلاَّ بجهلها بالحديث، فلو حفظ من ذكرناه هذين الكتابين عن ظهر قلب، وضمَّ إليهما من المُتون مثليهما لم يكن مُحدِّثًا، ولا يصير بذلك مُحدِّثًا حتَّى يَلج الجَمَلُ في سَمِّ الخياط، فإن رامت بُلوغ الغاية في الحديث على زعمها، اشتغلت «بجامع الأصول» لابن الأثير، فإن ضمت إليه «علوم الحديث» لابن الصَّلاح، أو مُختصره المُسمَّى «بالتقريب والتيسير» للنووى، ونحو ذلك، وحينئذ يُنادى من انتهى إلى هذا المقام: بمحدِّث المُحدِّثين، وبُخاري العصر، وما ناسب هذه الألفاظ الكاذبة، فإنَّ من ذكرناهُ لا يُعَدُّ مُحدثًا بهذا القدر، وإنَّما المُحدِّث من عرف الأسانيد، والعلل، وأسماء الرِّجال، والعالي والنازل، وحفظ مع ذلك جُملة مُستكثرة من المُتون، وسع الكتب السِّتة، و«مسند» أحمد بن حنبل، و«سنن» البَيْهقى، و«معجم» الطَّبراني، وضمَّ إلى هذا القدر ألف جُزء من الأجزاء الحديثية، هذا أقل درجاته، فإذا سمع ما ذكزناهُ، وكتب الطِّباق، ودار على الشِّيوخ، وتكلَّم في العلل، والوفيات، والمَسَانيد، كان في أوَّل درجات المُحدِّثين، ثمَّ يزيد الله من يشاء ما شاء. وقال في موضع آخر منه: ومن أهل العلم طائفة طلبت الحديث، وجعلت دأبها السَّماع على المشايخ، ومعرفة العالي من المسموع والنازل، وهؤلاء هم المُحدِّثون على الحقيقة، إلاَّ أنَّ كثيرًا منهم يُجْهِد نفسه في تَهَجِّى الأسماء والمُتون وكثرة السَّماع من غير فهم لما يقرؤه، ولا تتعلَّق فكرته بأكثر من أني حصَّلت جزء ابن عرفة عن سبعين شيخًا، وجُزء الأنصاري عن كذا كذا شيخًا، وجزء ابن الفيل، وجزء البطاقة، ونسخة أبى مسهر، وأنحاء ذلك، وإنَّما كان السَّلف يستمعون، فيقرؤون، فيرحلون، فيفسِّرون، ويحفظون، فيعملون. ورأيت من كلام شيخنا الذَّهبى في وصية لبعض المُحدِّثين في هذه الطائفة: ما حظ واحد من هؤلاء إلاَّ أن يسمع ليروي فقط، فليُعاقبن بنقيض قصده، وليُشْهرنَّه الله بعد ستره مرَّات، وليبقين مُضْغة في الألْسُن، وعِبْرة بين المُحدِّثين، ثُمَّ ليَطْبعنَّ الله على قلبه، ثُمَّ قال: فهل يَكُون طالب من طُلاَّب السُّنة، يتهاون بالصَّلوات، أو يتعانى تلك العادات؟ وأنحس منه محدِّث يكذب في حديثه، ويختلق الفشار، فإن ترقت همَّته المفتنة إلى الكذب في النَّقل والتَّزوير في الطباق، فقد اسْتراح، وإن تعانى سرقة الأجزاء، وكشط الأوقاف، فهذا لص بسمت مُحدِّث، فإن كمل نفسه بتلوط أو قيادة، فقد تمَّت له الإفادة ! وإن استعمل في العلوم فقد ازداد مهانة وخبطًا، إلى أن قال: فهل في مثل هذا الضَّرب خير؟ لا أكثر الله منهم. انتهى. ولبعضهم: إنَّ الَّذي يروي ولكنَّه *** يجهلُ ما يروي وما يكتبُ كصَخْرة تنبع أمواهها *** تسقي الأراضي وهي لا تَشْربُ وقال بعض الظُّرفاء في الواحد من هذه الطائفة: إنَّ قليل المعرفة والمخبرة *** يمشى ومعه أوراق ومَحْبرة معه أجزاء يدور بها على شيخ وعجُوز *** لا يعرف ما يجوز ممَّا لا يجوز ومُحِّدث قد صار غاية علمه *** أجزاء يرويها عن الدمياطي وفُلانة تروي حديثاً عاليًا *** وفلان يروي ذاك عن أسباط والفرق بين غريبهم وعزيزهم *** وافصح عن الخياط والحنَّاط وابن فُلان ما اسمه ومن الَّذي *** بين الأنام مُلقَّب بسناط وعلوم دين الله نادت جهرة *** هذا زمان فيه طي بساطى وقال الشيخ تَقِيُّ الدين السُّبكي: إنَّه سأل الحافظ جمال الدِّين المِزّي عن حد الحفظ الَّذي إذا انتهى إليه الرَّجُل جاز أن يُطلق عليه الحافظ؟ قال: يرجع إلى أهل العرف، فقلت: وأين أهل العرف؟ قليل جدًّا، قال: أقل ما يكون أن يكون الرِّجال الذين يعرفهم، ويعرف تراجمهم وأحوالهم وبلدانهم أكثر من الَّذين لا يعرفهم، ليكون الحكم للغالب، فقلت له: هذا عزيز في هذا الزَّمان، أدركت أنت أحداً كذلك؟ فقال: ما رأينا مثل الشيخ شرف الدِّين الدمياطي، ثمَّ قال: وابن دقيق العيد، كان له في هذا مُشَاركة جيدة، ولكن أين الثرى من الثريا، فقلت: كان يصل إلى هذا الحد؟ قال: ما هو إلاَّ كان يُشارك مُشَاركة جيدة في هذا، أعني في الأسانيد، وكان في المتون أكثر لأجل الفقه والأصول. وقال الشَّيخ فتح الدِّين بن سيِّد النَّاس: وأمَّا المُحدِّث في عصرنا فهو: من اشتغل بالحديث رواية ودراية، وجمع رواة، واطَّلع على كثير من الرُّواة والرِّوايات في عصره، وتميَّز في ذلك حتَّى عرف فيه حفظه واشتهر فيه ضبطه، فإن توسَّع في ذلك حتَّى عرف شيوخه، وشيوخ شيوخه، طبقة بعد طبقة، بحيث يكون ما يعرفه من كلِّ طبقة أكثر مِمَّا يجهله منها، فهذا هو الحافظ وأمَّا ما يحكى عن بعض المُتقدِّمين من قولهم: كُنَّا لا نعد صاحب حديث من لم يكتب عشرين ألف حديث في الإملاء، فذلك بحسب أزمنتهم. انتهى. وسأل شيخ الإسْلام أبو الفضل بن حجر شيخه أبا الفضل العِرَاقي فقال: ما يقول سيدي في الحدِّ الَّذي إذا بلغه الطالب في هذا الزَّمان استحقَّ أن يُسمَّى حافظًا؟ وهل يتسامح بنقص بعض الأوصاف التي ذكرها المزي وأبو الفتح في ذلك لنقص زمانه أم لا؟ فأجاب: الاجتهاد في ذلك يختلف باختلاف غلبة الظَّن في وقت لبلوغ بعضهم للحفظ وغلبته في وقت آخر، وباختلاف من يكون كثير المخالطة للذي يصفه بذلك، وكلام المزي فيه ضيق، بحيث لم يسم مِمَّن رآه بهذا الوصف إلاَّ الدمياطي، وأمَّا كلام أبى الفتح فهو أسهل، بأن ينشط بعد معرفة شُيوخه، إلى شُيوخ شيوخه، وما فوق، ولا شكَّ أنَّ جماعة من الحُفَّاظ المُتقدِّمين، كان شيوخهم التَّابعين، أو أتباع التَّابعين، وشُيوخ شيوخهم الصحابة، أو التابعين، فكان الأمر في هذا الزَّمان أسهل باعتبار تأخر الزَّمان، فإن اكتفي بكون الحافظ يعرف شُيوخه، وشيوخ شيوخه، أو طبقة أُخرى، فهو سهل لمن جعل فنه ذلك دون غيره من حفظ المُتُون والأسانيد، ومعرفة أنواع علوم الحديث كُلِّها، ومعرفة الصَّحيح من السَّقيم، والمعمول به من غيره، واختلاف العُلماء واستنباط الأحكام، فهو أمر مُمكن بخلاف ما ذكر من جميع ما ذكر، فإنَّه يحتاج إلى فراغ وطُول عُمر، وانتفاء الموانع. وقد رُوي عن الزُّهري أنَّه قال: لا يُولد الحافظ إلاَّ في كلِّ أربعين سنة. فإن صحَّ، كان المُرَاد رُتْبة الكمال في الحفظ والإتقان، وإن وجد في زمانه من يُوصف بالحفظ. وكم من حافظ غيره أحفظ منه. انتهى. ومن ألفاظ النَّاس في معنى الحفظ: قال ابن مهدي: الحفظ الإتْقَان. وقال أبو زُرْعة: الإتقان أكثر من حفظ السرد. وقال غيره: الحفظ المعرفة. قال عبد المُؤمن بن خلف النَّسفى: سألتُ أبا على صالح بن محمَّد قلت: يحيى بن معين هل يحفظ؟ قال: لا، إنَّما كان عنده معرفة، قال: قلت فعليِّ بن المديني كان يحفظ؟ قال: نعم ويعرف. انتهى. ومِمَّا رُوي في قدر حفظ الحُفَّاظ: قال أحمد بن حنبل: انتقيت «المُسند» من سبع مئة ألف حديث وخمسين ألف حديث. وقال أبو زُرْعه الرَّازي: كان أحمد بن حنبل يحفظُ ألف ألف حديث، قيل له: وما يُدريك؟ قال: ذاكرتُه فأخذتُ عليه الأبواب. وقال يحيى بن معين: كتبت بيدي ألف ألف حديث. وقال البُخَاري: أحفظ مئة ألف حديث صحيح، ومئتي ألف حديث غير صحيح. وقال مسلم: صنَّفتُ هذا «المسند الصحيح» من ثلاث مئة ألف حديث مسموعة. وقال أبو داود: كتبت عن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم خمس مئة ألف حديث، انتخبت منها ما ضمنته كتاب «السُّنن». وقال الحاكم في «المَدْخل»: كان الواحد من الحُفَّاظ يحفظ خمس مئة ألف حديث، سمعت أبا جعفر الرَّازي يقول: سمعت أبا عبد الله بن وارة يقول: كنت عند إسحاق بن إبراهيم بنيسابور، فقال رَجُل من أهل العراق: سمعتُ أحمد بن حنبل يقول: صحَّ من الحديث ست مئة ألف وكسر، وهذا الفتى، يعنى أبا زرعة، قد حفظ سبع مئة ألف. قال البَيْهقي: أراد ما صحَّ من الأحاديث، وأقاويل الصحابة والتابعين. وقال غيره: سُئل أبو زُرْعة عن رجل حلف بالطَّلاق أنَّ أبا زُرْعة يحفظ مئتي ألف حديث، هل يحنث؟ قال: لا، ثمَّ قال: أحفظ مئة ألف حديث كما يحفظ الإنسان سُورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وفي المُذَاكرة ثلاث مئة ألف حديث. وقال أبو بكر محمَّد بن عُمر الرَّازي الحافظ: كان أبو زُرْعة يحفظ سبع مئة ألف حديث، وكان يحفظ مئة وأربعين ألفًا في التفسير والقراءات. قال الحاكم: وسمعتُ أبا بكر بن أبي دارم الحافظ بالكُوفة يَقُول: سعتُ أبا العبَّاس أحمد بن محمَّد بن سعيد يَقُول: أحفظ لأهل البيت ثلاث مئة ألف حديث. قال: وسمعتُ أبا بكر يقول: كتبتُ بأصابعي عن مُطين مئة ألف حديث. وسمعتُ أبا بكر المُزنى يقول: سمعتُ ابن خُزيمة يقول: سمعتُ على بن خَشْرم يقول: كان إسحاق بن راهويه يُملي سبعين ألف حديث حفظًا. وأسند ابن عدي، عن ابن شُبرمة، عن الشَّعبي قال: ما كتبت سوداء في بيضاء إلى يومي هذا، ولا حدَّثني رجل بحديث قط إلاَّ حفظته، فحدثت بهذا الحديث إسحاق بن راهويه فقال: تعجب من هذا؟ قلت: نعم. قال: ما كنت لأسمع شيئا إلاَّ حفظته، وكأنِّي أنظر إلى سبعين ألف حديث، أو قال: أكثر من سبعين ألف حديث في كتبي. وأسند عن أبي داود الخفَّاف قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول: كأنِّي أنظر إلى مئة ألف حديث في كُتبي، وثلاثين ألفاً أسردها. وأسند الخطيب عن محمَّد بن يحيى بن خالد قال: سمعتُ إسحاق بن راهويه يقول: أعرف مكان مئة ألف حديث كأنِّي أنظر إليها، وأحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي، وأحفظ أربعة آلاف حديث مزورة. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل: قال أبي لداود بن عَمرو الضَّبي وأنا أسمع: كان يُحدثكم إسماعيل بن عيَّاش هذه الأحاديث بحفظه؟ قال: نعم، ما رأيت معه كتابًا قط، قال له: لقد كان حافظًا، كم كان يحفظ؟ قال: شيئاً كثرًا، قال: أكان يحفظ عشرة آلاف؟ قال: عشرة آلاف، وعشرة آلاف، وعشرة آلاف؟ فقال أبى: هذا كان مثل وكيع. وقال يزيد بن هارون: أحفظ خمسة وعشرين ألف حديث بإسناده ولا فخر، وأحفظ للشَّاميين عشرين ألف حديث. وقال يعقرب الدَّورقى: كان عند هُشَيم عشرون ألف حديث. وقال الآجري: كان عُبيد الله بن مُعاذ العنبري يحفظ عشرة آلاف حديث. الفائدة الثَّالثة: قال شيخ الإسلام: من أوَّل من صنَّف في الاصْطلاح القاضي أبو محمد الرامهرمزي، فعمل كتابه «المُحدِّث الفاصل» لكنه لم يستوعب، والحاكم أبو عبد الله النيسابوري، لكنه لم يُهذِّب ولم يرتب، وتلاه أبو نُعيم الأصبهانى، فعمل على كتابه مُسْتخرجًا، وأبقى فيه أشياء للمُتعقب، ثمَّ جاء بعدهم الخطيب البغدادي فعمل في قوانين الرِّواية كِتابًا سمَّاه «الكفاية» وفي آدابها كتابًا سمَّاه «الجامع لآداب الشيخ والسَّامع» وقلَّ فن من فُنون الحديث، إلاَّ وقد صَنَّف فيه كِتابًا مُفردًا، فكان كما قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: كل من أنصف علم أنَّ المُحدِّثين بعده عيال على كتبه! ثمَّ جمع مِمَّن تأخَّر عنه القاضي عياض كتابه «الإلماع»، وأبو حفص الميانجي جزء «ما لا يسع المُحدِّث جهله» وغير ذلك، إلى أن جاء الحافظ الإمام تقي الدِّين أبو عمرو عثمان بن الصلاح الشَّهرزوري نزيل دمشق، فجمع لمَّا ولي تدريس الحديث بالمدرسة الأشرفية كتابه المشهور، فهذَّب فنونه، وأملاه شيئا فشيئا، واعتنى بتصانيف الخطيب المُفرقة، فجمع شتات مقاصدها، وضمَّ إليها من غيرها نخب فوائد، فاجتمع في كِتَابه ما تفرَّق في غيره، فلهذا عكف النَّاس عليه، فلا يحصى كم ناظم له، ومختصر، ومستدرك عليه، ومقتصر، ومعارض له، ومنتصر. قال: إلاَّ أنَّه لم يحصل ترتيبه على الوضع المُناسب: بأن يذكر ما يتعلَّق بالمتن وحده، وما يتعلَّق بالسَّند وحده، وما يشتركان فيه معا؟ وما يختص بكيفية التحمل والأداء وحده، وما يختص بصفات الرُّواة وحدهُ لأنَّه جمع مُتفرقات هذا الفن من كُتب مُطولة في هذا الحجم اللَّطيف، ورأى أن تحصيله وإلقاءه إلى طالبيه أهم من تأخير ذلك، إلى أن تحصل العناية التامة بحُسْن ترتيبه. وقد تبعهُ على هذا التَّرتيب جماعة، منهم المُصَنِّفُ، وابن كثير، والعراقي، والبَلْقيني، وغيره جماعة، كابن جماعة، والتبريزي، والطيبي، والزَّركشى. الرَّابعة: اعلم أنَّ أنواع علوم الحديث كثيرة لا تُعَدُّ، قال الحَازمى في كتابه «العُجَالة»: علم الحديث يشتمل على أنواع كثيرة تبلغ مئة، كل نوع منها علم مستقل لو أنفق الطالب فيه عمره لما أدرك نهايته. وقد ذكر ابن الصلاح منها- وتبعه المُصنِّف- خمسة وستين، وقال: وليس ذلك بآخر المُمكن في ذلك، فإنَّه قابل للتنويع إلى ما لا يُحصَى، إذ لا تحص أحوال رُواة الحديث، وصفاتهم، ولا أحوال متون الحديث، وصفاتها، وما من حالة منها، ولا صفة إلاَّ وهى بصدد أن تُفرد بالذِّكر وأهلها، فإذا هي نوع على حياله. انتهى. قال شيخ الإسلام: وقد أخلَّ بأنواع مُستعملة عند أهل الحديث: منها: القوي، والجيد، والمعروف، والمحفوظ، والمُجوَّد، والثابت، والصَّالح. ومنها في صفات الرُّواة أشياء كثيرة: كمن اتَّفق اسم شيخه والرَّاوي عنه، وكمن اتَّفق اسمه، واسم شيخه، وشيخ شيخه، أو اسمه واسم أبيه وجده، أو اتَّفق اسمه وكنيته، وغير ذلك. واستدرك البَلْقيني في «محاسن الاصطلاح» خمسة أنواع أُخر غير ما ذُكر، وسيأتي إلحاق كل ذلك إن شاء الله تعالى. وقد ذكر ابن الصَّلاح أيضًا أحكام أنواع في ضمن نوع، مع إمكان إفرادها بالذِّكر، كذكره في نوع المُعضل أحكام المُعلَّق والمُعنعن، وهما نوعان مستقلان أفردهما ابن جماعة، وذكر الغريب والعزيز والمشهور والمتواتر في نوع واحد، وهى أربعة، ووقع له عكس ذلك، وهو تعدد أنواع وهي متحدة، والمُصنِّف تابع له في كل ذلك، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وهذا حين الشُّروع في المقصود بعون الملك المعبود. فأقول: بِسْم الله الرَّحْمن الرَّحيم أخَبَرني شيخنا شيخ الإسلام والمُسلمين، قاضي القُضَاة علم الدِّين صالح ابن شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رَسْلان البَلْقيني، وغير واحد إجَازة منهم، كلهم عن أبي إسْحَاق إبراهيم بن أحمد التنوخي، أنَّ أبا الحسن بن العطَّار الدِّمشقي أخبره، قال: أخبرني شيخ الإسلام الحافظ أبو زكريا النَّواوي قال: بسم الله الرَّحمن الرَّحيم أي: أبدأ امْتِثالا لقوله صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أمرٍ ذي بَالٍ لا يُبدأ فيهِ ببسْمِ الله الرَّحمن الرَّحيم فهو أقْطعُ». رواه الرهاوي في الأربعين من حديث أبي هُرَيرة. وتصدير النَّبي صلى الله عليه وسلم كُتبه بهَا مشهورٌ في «الصَّحيحين» وغيرهما. وروى الحاكم في «المُسْتدرك» وابن أبي حاتم في «تفسيره» من طريق جعفر بن مُسَافر، عن زيد بن المُبارك الصَّنعاني، عن سَلاَّم بن وهب الجَنَدي، عن أبيه، عن طاووس، عن ابن عبَّاس: أنَّ عُثمان بن عفَّان سألَ النَّبي صلى الله عليه وسلم عن بِسْم الله الرَّحمن الرحيم، فقال: «هُو اسْمٌ من أسْمَاء الله، ومَا بينهُ وبين اسْم الله الأكْبَر، إلاَّ كمَا بين سَوَاد العَيْنِ وبَيَاضها من القُرب». قال الحاكم: صحيح الإسناد. وروى ابن مردويه في «تفسيره» من طريق عبد الكبير بن المُعَافى بن عِمْران، عن أبيه، عن عُمر بن ذر، عن عَطَاء بن أبي رَبَاح، عن جابر بن عبد الله قال: لمَّا نزلت بسم الله الرَّحمن الرحيم هربَ الغيم إلى المشرق، وسَكَنت الرِّياح، وهاجَ البحر، وأصغت البَهائم بآذانها، ورُجمت الشَّياطين، وحلف الله بعزَّته وجَلاله أن لا يُسَمَّى اسمهُ على شيء إلاَّ باركَ فيه. وروى ابن جَرير وابن مَرْدويه في «تفسيرهما» وأبو نُعيم في «الحلية» من طريق إسْمَاعيل بن عيَّاش، عن إسماعيل بن يحيى، عن مِسْعر، عن عَطية، عن أبي سعيد الخُدْري مرفوعا: «أنَّ عيسى بن مريم أسْلمتهُ أمه إلى الكتاب ليُعلِّمه، فقال له المُعلِّم: اكتُب بِسْم الله الرَّحمن الرَّحيم، قال له عيسى: وما بِسْم الله؟ قال المُعلم: لا أدري، فقال له عيسى: البَاء بهاء الله، والسِّين سناؤه، والميم مَمْلكتهُ، والله إله الآلهة، والرَّحمن رحمن الدُّنيا والآخرة، والرَّحيم رحيم الآخرة». وهذا حديث غريب جدَّا، قال ابن كثير: وقد يكون صحيحًا موقوفًا ومن الإسرائيليات، لا من المرفوعات. وروى ابن جرير من طريق بشر بن عمارة، عن أبي رَوْق، عن الضحَّاك عن ابن عبَّاس قال: الله ذُو الألوهية والعُبُودية على خلقه أجمعين، والرَّحمن الفعلان من الرَّحمة، والرَّحيم الرَّفيق بمن أحب أن يرحمه، والبعيد الشَّديد على من أحب أن يُضعف عليه العَذَاب. وبِشْر ضعيف، والضحَّاك لم يسمع من ابن عبَّاس. وأسند ابن جرير عن العَرْزَميِّ قال: الرَّحمن لجميع الخلق، الرَّحيم بالمؤمنين. وأسندَ ابن أبي حاتم عن جابر بن زيد قال: الله هو الاسم الأعظم. وروى البَيْهقي وغيره عن ابن عبَّاس في قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] قال: لا أحد يُسمَّى الله. وأسْندَ ابن جَرير عن الحسن البَصْري قال: الرَّحمن اسم ممنوع، أي: لا يستطيع أحد أن يتسمَّى به. وأسندَ ابن أبي حاتم عن الحسن أيضًا قال: الرَّحيم اسم لا يستطيع النَّاس أن ينتحلوهُ، تسمَّى به تباركَ وتَعَالَى. وبهذه الآثار عرفت مُنَاسبة جميع هذه الأسماء الثَّلاثة في البَسْملة. الحمدُ لله. الحمد لله روى الخطَّابي في «غريبه» والدَّيلمي في «مُسْند الفردوس» والبيهقي في «الأدب» بسندٍ رجاله ثقات لكنه مُنقطع عن ابن عَمرو أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الحَمْد رأس الشُّكر، ما شَكَرَ الله عبد لا يَحْمدهُ». وروى الطَّبراني في «الأوسط» بسند ضعيف، عن النَّواس بن سَمْعَان قال: سُرقت ناقةُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الجَدْعَاء فقال رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: «لئنْ ردَّها الله عليَّ لأشْكُرنَّ رَبِّي». فرُدَّت، فقال: «الحمدُ لله». فنظُروا هل يُحْدِث صومًا أو صَلاة فظنُّوا أنَّه نسي، فقالوا له، قال: «ألَمْ أقُل الحمدُ لله». وروى ابن جَرير بسندٍ ضعيف، عن الحَكْم بن عُمير، وكانت له صحبة قال: قال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إذا قُلت الحمدُ لله رب العَالمين، فقد شَكَرت الله فزَادكَ». وأسْندَ من طريق الضحَّاك، عن ابن عبَّاس قال: الحمدُ لله هو الشُّكر لله، الاستخذاء لله، والإقْرار بنعمتهِ وابتداؤه، وغير ذلك. وأسندَ ابن أبي حاتم من طريق أحسن منه عن ابن عبَّاس قال: الحمدُ لله كلمة الشُّكر، فإذا قال العبد الحمدُ لله، قال: شَكَرني عبدي. وفي «صحيح» مسلم من حديث أبي مالك الأشْعري مرفوعًا: «الحَمدُ لله تملأُ المِيزَانَ». وأخرجه الترمذي من حديث ابن عَمرو، ورجُل من بني سُليم. وفي «صحيح» ابن حبَّان والترمذي من حديث جابر بن عبد الله: «أفْضلُ الذِّكر لا إله إلا الله، وأفضلُ الدُّعاء الحَمدُ لله». وروى ابن حبَّان وأبو داود والنَّسائي من حديث أبي هُرَيْرة مرفوعًا: «كُلُّ أمرٍ ذي بَالٍ، لا يُبدأ فيهِ بِحَمدِ الله فهو أقْطعُ». وروى أحمد والنَّسائي من حديث الأسْود بن سَرِيع مرفوعًا: «إنَّ ربَّك يُحبُّ الحَمدَ». الفَتَّاح المَنَّان. الفتَّاح صيغة مُبالغة من الفتح، بمعنى القَضَاء قال تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [الأعراف: 89]. المَنَّان صيغة مُبالغة من المَنِّ، بمعنى الكثير الإنعام، وسيأتي في النَّوع الخامس والأربعين في أثرٍ مُسلسل عن علي: إنَّه الَّذي يبدأ بالنَّوال قبلَ السؤال. ذي الطَّول والفَضْلِ والإحْسَان، الَّذي منَّ علينا بالإيمان، وفَضَّل دِيننَا على سَائر الأدْيَان، ومَحَا بحبيبه وخَلِيله عبده ورَسُوله مُحمَّد صلى الله عليه وسلم عِبَادة الأوْثَان. ذي الطَّول كمَا وصفَ تعالى بذلك نفسه في كتابه، وفسَّره ابن عباس فيما أخرجه ابن أبي حاتم: بذي السَّعة والغِنَى. والفَضْل والإحْسَان الَّذي مَنَّ علينا بالإيمان بأن هدانا إليه ووفقنا له، وفضَّلَ ديننا وهو الإسْلام على سَائرِ الأدْيانِ كما وردت بذلكَ الأحاديث المَشْهُورة ومَحَا بحبيبه وخليله وعبده ورَسُوله محمَّد صلى الله عليه وسلم عبادة الأوثان أي: الأصنام الَّتي كان عليها كُفَّار الجَاهلية في زَمنِ الفَتْرة بعد عيسى عليه السَّلام، وقد ذكر المُصنِّف هنا أربع صِفَات من أشرف أوصَافه صلى الله عليه وسلم، فالحبيب ورد في حديث الترمذي وغيره عن ابن عبَّاس مرفوعًا: «ألا وأنَا حَبيبُ الله ولا فَخْر». وروى أحمد وغيره من حديث ابن مَسْعُود عن النَّبي صلى الله عليه وسلم: «إنِّي ابرأ إلى كُلِّ خَليلٍ من خِلَّتهِ، ولو كُنتُ مُتَّخذًا خليلاً لاتَّخذْتُ أبا بكرٍ خَليلاً، وإنَّ صَاحبكُم خَليلُ الله». وقد اخْتُلف في تفسير الخِلَّة واشْتقاقها، فقيل: الخليل المُنقطع إلى الله بلا مِرْية، وقيل: المُختص به، وقيل: الصَّفي الَّذي يوالي فيه، ويعادي فيه، وقيل: المُحتاج إليه. وأصل المحبة الميل، وهي في حقِّ الله تعالى تمكينه لعبده من السَّعادة والعِصْمة، وتهيئة أسباب القُرْب، وإفَاضة الرَّحمة عليه، وكشف الحُجُب عن قلبه، والأكثر على أنَّ درجة المحبَّة أرفع، وقيل بالعكس، لأنَّه صلى الله عليه وسلم نفى ثبوت الخِلَّة لغير ربِّه، وأثبت المحبة لفَاطمة وابنها، وأُسامة وغيرهم، وقيل: هُما سواء والعبد من أشرف صِفَات المخلوق. أسندَ القُشَيري في رسالته عن الدقَّاق قال: ليس شيء أشرف من العُبُودية، ولا اسم أتمَّ للمؤمن منها، ولذلكَ قال في صفته صلى الله عليه وسلم ليلةَ المعراج- وكان أشرف أوقاته- {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 1] ولو كانَ اسم أجل من العُبودية لسمَّاهُ به. وأُسند عنه أيضًا قال: العبودية أتم من العبادة، فأولاً عبادة، وهي للعوام، ثمَّ عُبودية وهي للخواص، ثمَّ عُبودية وهي لخواص الخواص. وفي «المُسند» وغيره من حديث أبي هُرَيرة: أنَّ مَلكًا أتَى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ الله أرْسَلني إليكَ، أفملكًا نبيًّا يَجْعلُكَ، أو عبدًا رَسُولاً، فقال جبريل: تواضع لربِّكَ يا مُحمَّد قال: «بَلْ عَبْدًا رَسُولا». والأشْهرُ في معنى الرَّسول أنَّه إنْسَان أُوحي إليه بشرع، وأُمرَ بتبليغه، فإن لم يُؤمر فنبي فقط، ومِمَّن جزم به الحَلِيمي، وقيل: وكانَ معهُ كِتَاب، أو نسخ لبعض شرع من قبله، فإن لم يَكُن فنبي فقط، وإن أُمِرَ بالتبليغ فالنَّبي أعم عليهما، وقيل: هُمَا بمعنى، وهو الأوْلَى. ثمَّ الأكثر على أنَّه صلى الله عليه وسلم مُرسل إلى الإنْسِ والجن دونَ المَلائكة، صرَّح بذلك الحَلِيمي والبَيْهقي في «الشُّعب»، والرَّازي والنَّسفي في تفسيريهما، ونقلهُ المتأخرون، منهم الحافظ أبو الفضل العراقي في «نكته» على ابن الصَّلاح، والشيخ جلال الدين المحلي في «شرح جَمْعِ الجَوَامع» واختار البَارزي والسُّبكي أنَّه مُرسل إلى الملائكة أيضًا، وهو اختياري، وقد ألَّفتُ فيه كتابًا، وأمَّا الكلام في شرح اسمه محمَّد، فقد بسطناهُ في «شرح الأسماء النَّبوية». وخصَّه بالمُعجِزَة والسُّنن المُسْتمرة على تَعَاقُب الأزْمَان، صلَّى الله عليه وعلى سَائرِ النَّبيين، وآل كُلٍّ ما اختلفَ المَلوَان، وما تَكَرَّرت حِكَمهُ وذكرهُ، وتعاقبَ الجَدِيدان. وخصَّه بالمُعجزة المُسْتمرة أي: القرآن والسُّنن المستمرة على تعاقب الأزْمَان في الصَّحيحين عن أبي هُرَيرة: أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَا من الأنْبياء من نَبيٍّ إلاَّ قد أُعْطِيَ من الآياتِ مَا مِثْلهُ آمنَ عليه البَشَر، وإنَّما كانَ الَّذي أُوتيتُ وحْيًا أوْحَاهُ الله إليَّ، فأرجُو أن أكُونَ أكْثرهُم تَبعًا يومَ القِيَامة». أي: اخْتصصتهُ من بينهم، بالقُرآن المُعْجِز للبَشرِ المُسْتمر إعْجَازه إلى يوم القيامة، بِخلافِ سَائر المُعْجزات، فإنَّها انْقَضتْ في وقتها. صَلَّى الله عليه وسلم، وعلى سَائر النَّبيين وآل كُلٍّ ما اختلف المَلوَان أي: الليل والنَّهار، قالهُ في «الصِّحَاح» يُقال: لا أفعله ما اختلف المَلوَان، الواحد مَلا بالقصر، وما تَكرَّرت حكمه وذكره وتعاقبَ الجَدِيدان أي: الَّليل والنهار أيضًا، قال ابن دُريد: إنَّ الجَديدين إذَا مَا اسْتوليا *** على جديدٍ أدْنياهُ للبلى وقيلَ: هُمَا الغَدَاة والعَشِي، وأدخلَ المُصنِّف في الصَّلاة سَائر النَّبيين، لحديث: «صلُّوا على أنْبَياء الله ورُسله، فإنَّهم بُعثُوا كَمَا بُعثتُ». أخرجه الخطيب وغيره. وآل النَّبي صلى الله عليه وسلم عند الشَّافعي أقاربهُ المُؤمنون من بَنِي هاشم والمُطَّلب، لحديث مسلم في الصَّدقة: «إنَّها لا تحلُّ لمُحمَّد ولا لآل مُحمَّد». وقال في حديث رواهُ الطَّبراني: «إنَّ لَكُم في خُمس الخُمس ما يَكْفيكُم أو يُغنيكُم». وقد قَسَمَ صلى الله عليه وسلم الخُمس على بني هاشم والمُطَّلب، تاركًا أخويهم بَنِي نَوْفل وعبد شمس، مع سُؤالهم له، كما رواه البُخاري. فآلُ إبراهيم: إسماعيل وإسحاق وأولادهما، ويُقاس بذلك آل الباقين. وتعبير المُصنِّف عن السنة بالحكم أخذًا من تفسير الحكمة في قوله تعالى: { وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [آل عمران: 164] وقوله: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب: 34] بالسُّنة. قال ذلك قتادة والحسن وغيرهما. أمَّا بعدُ فإنَّ عِلْم الحديثِ من أفْضَلِ القُرَبِ إلى ربِّ العَالمين، وكيفَ لا يَكُون، وهو بيانُ طريق خير الخَلْقِ وأكْرَم الأوَّلين والآخرين، وهذا كتابٌ اختصرتهُ من كِتَاب «الإرْشَاد» الَّذي اختصرتهُ من «عُلُوم الحَدِيث» للشَّيخ الإمام الحافظ المُحقِّق المُتقن أبي عَمرو عُثمان بن عبد الرَّحمن، المعروف بابن الصَّلاح رضي الله عنه، أبُالغ فيه في الاختصار إن شَاء الله تَعَالَى من غَيْرِ إخلالٍ بالمقصودِ، وأحرصُ على إيضَاح العِبَارة، وعَلَى الله الكَريمِ الاعتمَادُ، وإليهِ التَّفويض والاسْتنادُ. أمَّا بعد أتَى بها لأنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم كانَ إذا خطبَ قال: «أمَّا بعد» رواه الطَّبراني، وذِكْرُها في خُطَبه صلى الله عليه وسلم مشهور في «الصَّحيحين» وغيرهما. وفي حديث: «إنَّها فَصْل الخِطَاب الَّذي أُوتيه داود». رواه الدَّيلمي في «مسند الفردوس» من حديث أبي موسى الأشْعري. فإنَّ علم الحديث من أفضل القُرَب جمع قُرْبة، أي: ما يتقرَّب به إلى ربِّ العالمين وكيف لا يكون كذلك وهو بيان طريق خير الخَلْقِ وأكرم الأوَّلين والآخرين والشَّيء يَشْرُف بشرف مُتعلقه، وهو أيضًا وسيلة إلى كُلِّ علم شرعي، أمَّا الفقه فواضح، وأمَّا التَّفسير فلأنَّ أولَى ما فُسِّر به كلام الله تعالى ما ثبتَ عن نَبيِّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وذلكَ يتوقف على معرفته. وهذا كتاب في علوم الحديث اختصرته من كتاب «الإرشاد» الَّذي اختصرته من كتاب «علوم الحديث» للشيخ الإمام الحافظ المحقِّق المتقن تقي الدين أبي عَمرو عثمان بن عبد الرَّحمن الشَّهرزوري، ثمَّ الدمشقي المعروف بابن الصَّلاح وهو لقبُ أبيه رضي الله عنه أُبالغ فيه في الاختصار إن شاء الله تعالى من غير إخْلال بالمقصود، وأحرصُ على إيضاح العِبَارة وعلى الله الكريم الاعتماد، وإليه التفويض والاسْتناد. الحديث: صحيحٌ، وحسنٌ، وضعيفٌ. الحديث فيما قال الخطَّابي في «معالم السُّنن» وتبعهُ ابن الصَّلاح: ينقسم عند أهله على ثلاثة أقْسَام: صحيحٌ، وحسنٌ، وضعيفٌ لأنَّه إمَّا مقبولٌ، أو مردودٌ، والمقبول إمَّا أن يشتمل من صفات القَبُول على أعلاها أولاً، والأول: الصَّحيح، والثاني: الحسن. والمردود لا حاجة إلى تقسيمه، لأنَّه لا ترجيح بين أفراده. واعْتُرضَ بأنَّ مراتبه أيضًا مُتفاوتة، فمنه ما يصلح للاعتبار، وما لا يصلح كما سيأتي، فكانَ ينبغي الاهتمام بتمييز الأوَّل من غيره. وأُجيب: بأنَّ الصَّالح للاعتبار، داخلٌ في قسم المقبول، لأنَّه من قسم الحسن لغيره، وإن نُظر إليه باعتبار ذاته فهو أعلى مراتب الضعيف. وقد تفاوتت مراتب الصَّحيح أيضًا، ولم تُنوع أنواعًا، وإنَّما لم يُذكر الموضوع لأنَّه ليسَ في الحقيقة بحديث اصْطلاحا، بل يَزْعم واضعهُ. وقيل: الحديث صحيح وضعيف فقط، والحسن مُدْرجٌ في أنواع الصَّحيح. قال العِرَاقيُّ في «نكته»: ولم أر من سبق الخطَّابي إلى تقسيمه المذكور، وإن كان في كلام المُتقدمين ذِكْر الحسن، وهو موجود في كلام الشافعي والبُخاري وجماعة، ولكن الخطَّابي نقل التقسيم عن أهل الحديث، وهو إمام ثقة، فتبعه ابن الصَّلاح. قال شيخ الإسلام ابن حجر: والظَّاهر أنَّ قوله: عند أهل الحديث، من العام الَّذي أُريد به الخُصوص، أي الأكثر، أو الَّذي استقرَّ اتفاقهم عليه بعد الاختلاف المتقدم.
تنبيه: قال ابن كثير: هذا التقسيم إن كان بالنسبة لِمَا في نفس الأمر، فليس إلاَّ صحيح وكذب، أو إلى اصطلاح المُحدِّثين، فهو ينقسم عندهم إلى أكثر من ذلك. وجوابه: أنَّ المُراد الثاني، والكل راجع إلى هذه الثَّلاثة.
وفيه مسائل: الأُولى في حَدِّه: وهو ما اتَّصلَ سنده بالعُدُول الضَّابطين من غَيْر شُذوذٍ ولا عِلَّة. الأوَّل: الصَّحيح وهو فعيل بمعنى فاعل من الصحة، وهي حقيقة في الأجسام، واستعمالها هنا مجاز واستعارة تبعية وفيه مسائل: الأولى في حدِّه: وهو ما اتَّصل سنده عدلٌ، عن قول ابن الصَّلاح: المُسند الذي يَتَّصل إسناده، لأنَّه أخصر وأشمل للمرفوع والموقوف. بالعدول الضَّابطين جمعٌ باعتبار سلسلة السَّند، أي: بنقل العدل الضَّابط، عن العدل الضابط إلى مُنتهاه، كما عبَّر به ابن الصَّلاح، وهو أوضح من عبارة المُصنِّف، إذ تُوهم أن يرويه جماعة ضابطون، عن جماعة ضابطين، وليس مُرادًا. قيل: كان الأفضل أن يَقُول: بنقل الثِّقة، لأنَّه من جمع العدالة والضَّبط، والتعاريف تُصَان عن الإسهاب. من غير شُذوذ ولا علة فخرجَ بالقيد الأوَّل: المُنقطع والمُعضل والمعلَّق والمُدلَّس والمُرسل، على رأي من لا يقبله، وبالثاني ما نقله مجهول عينًا أو حالا، أو معروف بالضعف، وبالثالث ما نقله مُغفَّل كثير الخطأ، وبالرابع والخامس الشَّاذ والمُعلل.
الأوَّل: حدَّ الخطَّابي الصَّحيح بأنَّه ما اتَّصل سندهُ وعدلت نقلته. قال العِرَاقيُّ: فلم يشترط ضَبْط الرَّاوي، ولا السَّلامة من الشذُّوذ والعِلَّة. قال: ولا شكَّ أنَّ ضبطهُ لا بدَّ منهُ، لأنَّ من كَثُر الخطأ في حديثه، وفحش استحق التَّرك. قلت: الَّذي يظهر لي أنَّ ذلك داخلٌ في عِبَارته، وأنَّ بين قولنا: العَدْل وعَدَّلوه فرقًا، لأنَّ المُغفَّل المُستحق للتَّرك، لا يصح أن يُقَال في حقِّه: عدَّله أصحاب الحديث، وإن كانَ عدلاً في دينه، فتأمَّل. ثمَّ رأيتُ شيخ الإسْلام ذكر في «نكته» معنى ذلك فقال: إنَّ اشْتراط العَدَالة يَسْتدعي صِدْق الرَّاوي وعدم غَفْلته، وعدم تساهله عند التَّحَمُّل والأداء. وقيل: إنَّ اشتراط نفي الشذوذ، يُغني عن اشْتراط الضَّبط، لأنَّ الشَّاذ إذا كان هو الفرد المُخَالف، وكان شرط الصَّحيح أن ينتفى، كان من كَثُرت منه المخالفة وهو غير الضابط أولى. وأُجيب: بأنَّه في مُقَام التبيين، فأرادَ التَّنصيص ولم يكتف بالإشَارة. قال العِرَاقي: وأمَّا السَّلامة من الشذُّوذ والعِلَّة، فقال ابن دقيق العيد في «الاقتراح»: إنَّ أصْحَاب الحديث زادُوا ذلك في حدِّ الصَّحيح. قال: وفيه نظر على مُقتضى نظر الفُقهاء، فإنَّ كثيرًا من العلل الَّتي يُعلِّل بها المُحَدِّثون لا تجري على أصول الفقهاء. قال العِرَاقيُّ: والجواب: أنَّ من يُصنِّف في علم الحديث إنَّما يذكر الحد عند أهله لا عند غيرهم من أهل علم آخر. وكون الفُقهاء والأُصوليين لا يشترطون في الصَّحيح هذين الشَّرطين، لا يفسد الحد عند من يَشْترطهما، ولذا قال ابن الصَّلاح بعد الحد: فهذا هو الحديث الَّذي يُحكم له بالصِّحة بلا خلاف بين أهل الحديث، وقد يختلفون في صحة بعض الأحاديث، لاختلافهم في وجود هذه الأوصاف فيه، أو لاختلافهم في اشتراط بعضها، كما في المُرسل. الثاني: قيل: بقي عليه أن يقول: ولا إنكار. وردَّ بأنَّ المُنكر عند المُصنِّف وابن الصَّلاح هو والشاذ سيان، فذكره معه تكرير، وعند غيرهما أسوأ حالا من الشاذ، فاشتراط نفي الشذوذ يقتضي اشتراط نفيه بطريق الأولى. الثالث: قيل: لم يفصح بمراده من الشذوذ هنا، وقد ذكر في نوعه ثلاثة أقوال، أحدها: مُخالفة الثِّقة لأرجح منه، والثاني: تفرد الثِّقة مُطلقًا، والثالث: تفرد الرَّاوي مُطْلقًا. ورد الأخيرين، فالظَّاهر أنَّهُ أرادَ هنا الأوَّل. قال شيخ الإسلام: وهو مُشكل لأنَّ الإسْنَاد إذا كان مُتَّصلا، ورواته كلهم عُدولاً ضابطين، فقد انتفت عنه العلل الظَّاهرة، ثمَّ إذا انتفى كونه معلولاً، فما المَانع من الحُكم بصحته، فمُجرد مُخالفة أحد رُواته لمن هو أوثق منه، أو أكثر عددًا، لا يستلزم الضعف، بل يكون من باب صحيح وأصح. قال: ولم يُرو مع ذلك عن أحد من أئمة الحديث اشتراط نفي الشذوذ المعبر عنه بالمُخَالفة، وإنَّما الموجود من تصرفاتهم تقديم بعض ذلك على بعض في الصحة. وأمثلة ذلك موجودة في «الصَّحيحين» وغيرهما فمن ذلك: أنَّهما أخرجا قِصَّة جمل جابر من طُرق، وفيها اختلاف كثير في مقدار الثمن، وفي اشتراط رُكوبه، وقد رجَّح البُخاري الطُّرق الَّتي فيها الاشتراط على غيرها، مع تخريج الأمرين، ورجَّح أيضًا كون الثَّمن أُوقية مع تخريجه ما يُخالف ذلك. ومن ذلك: أنَّ مُسلمًا أخرج فيه حديث مالك، عن الزُّهري، عن عروة، عن عائشة في الاضطجاع قبل ركعتي الفجر، وقد خالفه عامة أصحاب الزُّهري، كمَعْمَر، ويونس، وعَمرو بن الحارث، والأوزاعي، وابن أبي ذئب، وشُعيب، وغيرهم عن الزُّهْري، فذكروا الاضطجاع بعد ركعتي الفجر قبل صلاة الصُّبح، ورجَّح جمعٌ من الحُفَّاظ روايتهم على رواية مالك، ومع ذلك فلم يتأخَّر أصحاب الصحيح عن إخراج حديث مالك في كُتبهم، وأمثلة ذلك كثيرة. ثمَّ قال: فإن قيلَ: يلزم أن يُسمَّى الحديث صحيحًا ولا يُعمل به. قلت: لا مانع من ذلكَ، ليسَ كل صحيح يُعمل به، بدليل المنسُوخ، قال: وعلى تقدير التسليم أن المُخالف المرجوح لا يُسمَّى صحيحًا، ففي جعل انتفائه شَرطًا في الحكم للحديث بالصحة نظر، بل إذا وجدت الشروط المذكُورة أولاً حُكم للحديث بالصِّحة ما لم يظهر بعد ذلكَ أنَّ فيه شُذُوذًا، لأنَّ الأصل عدم الشُّذوذ، وكون ذلكَ أصلاً مأخوذ من عَدَالة الرَّاوي وضبطه، فإذا ثبت عدالته وضبطه، كان الأصل أنَّه حفظ ما روى حتَّى يتبين خلافه. الرابع: عبارة ابن الصَّلاح: ولا يكون شاذًّا ولا مُعللا. فاعتُرض بأنَّه لا بد أن يقول: بعلِّة قادحة. وأجيب: بأن ذلك يؤخذ من تعريف المعلول حيث ذكر في موضعه. قال شيخ الإسلام: لكن من غيَّر عبارة ابن الصَّلاح فقال: من غير شذوذ ولا عِلَّة، احتاج أن يصف العلة بكونها قادحة، وبكونها خفية، وقد ذكر العراقي في «منظومته» الوصف الأوَّل وأهمل الثاني، ولا بد منه، وأهمل المُصنِّف وبدر الدين ابن جماعة الاثنين، فبقي الاعتراض من وجهين. قال شيخ الإسلام: ولم يُصب من قال: لا حاجة إلى ذلك، لأنَّ لفظ العِلَّة لا يُطلق إلاَّ على ما كان قادحًا، فلفظ العِلَّة أعم من ذلك. الخامس: أورد على هذا التعريف ما سيأتي: إنَّ الحسن إذا رُوي من غير وجه ارتقى من درجة الحسن إلى مَنْزلة الصِّحة، وهو غير داخل في هذا الحد، وكذا ما اعْتُضد بتلقي العلماء له بالقبول. قال بعضهم: يحكم للحديث بالصحة إذا تلقاه الناس بالقبول، وإن لم يكن له إسناد صحيح. قال ابن عبد البرِّ في «الاستذكار» لمَّا حكى عن التِّرمذي: أنَّ البُخَاري صحَّح حديث البَحْر «هُو الطَّهُور مَاؤُه...»: وأهل الحديث لا يُصَحِّحُون مثل إسْنَاده، لكن الحديث عندي صحيح، لأنَّ العُلماء تلقُوه بالقبول. وقال في «التمهيد»: روى جابر عن النَّبي صلى الله عليه وسلم «الدِّينار أرْبَعة وعِشْرُون قيراطًا». قال: وفي قول جماعة العُلماء وإجماع النَّاس على معناه غنى عن الإسناد فيه. وقال الأستاذ أبو إسْحَاق الإسفرايني: تُعرف صحة الحديث إذا اشْتُهر عند أئمة الحديث بغير نكير منهم. وقال نحوه ابن فُورك، وزاد بأنَّ مثل ذلكَ بحديث: «في الرِّقة رُبع العُشْر، وفي مئتي دِرْهم خَمْسةُ دراهم». وقال أبو الحسن ابن الحصار في «تقريب المدارك على موطأ مالك»: قد يعلم الفقيه صحَّة الحديث إذا لم يكن في سنده كذَّاب بموافقة آية من كتاب الله، أو بعض أصول الشَّريعة، فيحمله ذلك على قبوله والعمل به. وأجيب: عن ذلك بأنَّ المُراد بالحد الصحيح لذاته لا لغيره، وما أورد من قَبِيل الثاني. السَّادس: أورد أيضًا المُتواتر، فإنَّه صحيح قطعًا، ولا يشترط فيه مجموع هذه الشُّروط. قال شيخ الإسلام: ولكن يُمكن أن يُقال: هل يُوجد حديث مُتواتر، لم تُجمع فيه هذه الشُّروط ! السَّابع: قال ابن حجر: قد اعتنى ابن الصَّلاح والمُصنِّف بجعل الحسن قسمين: أحدهما لذاته، والآخر باعْتِضَاده، فكانَ ينبغي أن يُعتني بالصَّحيح أيضًا، ويُنبه على أنَّ له قسمين كذلك، وإلاَّ فإن اقتصر على تعريف الصَّحيح لذاته في بابه، وذكر الصَّحيح لغيره في نوع الحسن، لأنَّه أصلهُ، فكان ينبغي أن يُقتصر على تعريف الحسن لذاته في بابه، ويُذكر الحسن لغيره في نوع الضعيف، لأنَّه أصله.
الأولى: قال ابن حجر: كلام ابن الصَّلاح في «شرح مسلم» له يدل على أنَّه أخذ الحد المذكور هنا من كلام مُسلم، فإنَّه قال: شرط مسلم في «صحيحه» أن يكون مُتَّصل الإسناد، بنقل الثِّقة عن الثِّقة من أوَّله إلى مُنتهاه، غير شاذ ولا مُعلَّل، وهذا هو حد الصحيح في نفس الأمر. قال شيخ الإسلام: ولم يتبين لي أخذه انتفاء الشذوذ من كلام مُسلم، فإن كان وقف عليه من كلامه في غير مقدمة صحيحة، فذاك وإلاَّ فالنَّظر السَّابق في السلامة من الشذوذ باق، قال: ثمَّ ظهر لي مأخذ ابن الصَّلاح، وهو أنَّه يرى أن الشَّاذ والمُنكر اسمان لمُسمى واحد. وقد صرَّح مسلم بأنَّ عَلامة المُنكر أن يروي الرَّاوي عن شيخ كثير الحديث والرُّواة شيئا ينفرد به عنهم، فيكُون الشَّاذ كذلك، فيشترط انتفاؤه. الثانية: بقي للصَّحيح شُروط مُختلفٌ فيها: منها: ما ذكرهُ الحاكم من «عُلوم الحديث» أن يكون راويه مشهورًا بالطَّلب، وليس مُراده الشُّهرة المُخرجة عن الجهالة، بل قدر زائد على ذلك. قال عبد الله بن عون: لا يؤخذ العلم إلاَّ على من شُهد له بالطَّلب، وعن مالك نحوه. وفي مقدمة مسلم عن أبي الزِّناد: أدركتُ بالمدينة مئة كُلُّهم مَأمون، ما يُؤخذ عنهم الحَدِيث، يُقال: ليسَ من أهله. قال شيخ الإسْلام: والظَّاهر من تصرف صاحبي «الصحيح» اعتبار ذلك، إلاَّ إذا كَثُرت مخارج الحديث، فيستغنيان عن اعتبار ذلك، كمَا يستغني بكثرة الطُّرق عن اعتبار الضَّبط التَّام. قال شيخُ الإسْلام: ويمكن أن يُقال: اشتراط الضَّبط يُغني عن ذلك، إذ المقصود بالشُّهرة بالطلب، أن يكون له مزيد اعتناء بالرِّواية، لتركن النَّفس إلى كونه ضبط ما روى، ومنها ما ذكره السَّمعاني في القواطع، أنَّ الصَّحيح لا يُعرف برواية الثِّقات فقط، وإنَّما يُعرف بالفهم والمَعْرفة وكثرة السَّماع والمُذَاكرة. قال شيخ الإسْلام: هذا يُؤخذ من اشتراط انتفاء كونه مَعلُولا، لأنَّ الاطلاع على ذلكَ إنَّما يحصل بما ذكر من الفَهْم والمُذَاكرة وغيرهما. ومنها: أنَّ بعضهم اشْتَرط علمهُ بمعاني الحديث، حيث يروي بالمعنى، وهو شرط لا بد منهُ، لكنه داخل في الضَّبط كما سيأتي في معرفة من تُقبل روايته. ومنها: أنَّ أبا حنيفة اشترط فقه الرَّاوي. قال شيخ الإسلام: والظَّاهر أنَّ ذلك إنَّما يشترط عند المُخَالفة، أو عند التَّفرد بما تَعُم به البَلْوى. ومنها: اشتراط البُخَاري ثُبوت السَّماع لكلِّ راو من شيخه، ولم يكتف بإمكان اللقاء والمُعَاصرة كما سَيأتي، وقيل: إنَّ ذلكَ لم يذهب أحد إلى أنَّه شرطَ الصَّحيح، بل للأصحية. ومنها: أنَّ بعضهم اشْترط العدد في الرِّواية كالشَّهادة. قال العِرَاقي: حكاهُ الحَازمي في شُروط الأئمة عن بعض مُتأخري المُعْتزلة، وحكى أيضًا عن بعض أصْحَاب الحديث. قال شيخ الإسلام: وقد فَهِمَ بعضهم ذلكَ من خِلال كلام الحاكم في «علوم الحديث» وفي «المدخل» كما سيأتي في شرط البُخَاري ومسلم، وبذلك جَزمَ ابن الأثير في مقدمة «جامع الأصول» وغيره. وأعجب من ذلكَ ما ذَكَرهُ الميانجي في كتاب «ما لا يسع المُحدِّث جهله»: شرط الشَّيخين في «صحيحهما» أن لا يدخُلا فيه إلاَّ ما صَحَّ عندهما، وذلكَ ما رواهُ عن النَّبي صلى الله عليه وسلم اثنان فصَاعدًا، وما نقلهُ عن كلِّ واحد من الصَّحابة أربعة من التَّابعين فأكثر، وأن يَكُون عن كلِّ واحد من التابعين أكثر من أربعة. انتهى. قال شيخ الإسْلام: وهو كلام من لم يُمارس «الصَّحيحين» أدْنَى مُمَارسة، فلو قال قائل: ليس في الكتابين حديث واحد بهذه الصِّفة لما أبعد. وقال ابن العَرَبي في «شرح الموطأ»: كان مذهب الشَّيخين أنَّ الحديث لا يثبت حتَّى يرويه اثنان، قال: وهو مذهب باطل، بل رواية الواحد عن الواحد صحيحة إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم. وقال في «شرح البُخاري» عند حديث «الأعمال...»: انفرد به عُمر، وقد جاء من طريق أبي سعيد، رواه البزَّار بإسْنَاد ضعيف. قال: وحديث عُمر وإن كان طريقه واحدا وإنَّما بنى البُخَاري كتابه على حديث يرويه أكثر من واحد، فهذا الحديث ليسَ من ذلك الفن، لأنَّ عُمر قاله على المنبر بمحضر الأعيان من الصحابة، فصَار كالمُجْمع عليه، فكأنَّ عمر ذكَّرهم، لا أخبر. قال ابن رُشيد: وقد ذكر ابن حبَّان في أوَّل «صحيحه»: أنَّ ما ادَّعاه ابن العربي وغيره، من أنَّ شرط الشَّيخين ذلكَ مُستحيل الوجود. قال: والعَجَب منه كيف يدَّعي عليهما ذلك، ثمَّ يزعم أنَّه مذهب باطل، فليت شعري من أعلمه بأنَّهما اشترطا ذلك، إن كان منقولاً فليُبين طريقه ليُنظر فيها، وإن كان عرفه بالاستقراء فقد وهم في ذلك، ولقد كان يكفيه في ذلك أوَّل حديث في البُخاري، وما اعتذر به عنه فيه تقصير، لأنَّ عمر لم ينفرد به وحده، بل انفرد به عَلْقمة عنه، وانفرد به محمَّد بن إبراهيم، عن علقمة، وانفرد به يحيى بن سعيد، عن محمد، وعن يحيى تعددت رُواته. وأيضًا: فكون عُمر قاله على المنبر لا يستلزم أن يَكُون ذكَّر السَّامعين بما هو عندهم، بل هو مُحتمل للأمرين، وإنَّما لم يُنكروه لأنَّه عندهم ثقة، فلو حدَّثهم بما لم يسمعُوه قط، لم يُنكروا عليه. وقد قال باشْتراط رَجُلين عن رجلين في شرط القَبُول إبراهيم بن إسماعيل ابن علية، وهو من الفُقهاء المُحدِّثين، إلاَّ أنَّه مهجُور بالقَوْل عند الأئمة لِمَيله إلى الاعْتزال، وقد كانَ الشَّافعي يرد عليه ويُحذِّر منهُ. وقال أبو علي الجبائي من المعتزلة: لا يُقبل الخبر إذا رَواه العدل الواحد إلاَّ إذا انضم إليه خبر عدل آخر، أو عضده مُوافقة ظاهر الكتاب، أو ظاهر خبر آخر، أو يكون منتشرًا بين الصحابة، أو عمل به بعضهم. حكاهُ أبو الحسن البصري في «المعتمد». وأطلقَ الأسْتاذ أبو نَصْر التميمي، عن أبي علي: أنَّه لا يقبل إلاَّ إذا رواه أرْبعة. وللمُعتزلة في ردِّ الخبر الواحد حُجَجٌ، منها قِصَّة ذِي اليدين، وكون النَّبي صلى الله عليه وسلم توقَّف في خبره، حتَّى تابعه عليه غيره، وقِصَّة أبي بكر حين توقَّف في خبر المُغيرة في ميراث الجدة، حتَّى تابعه محمَّد بن مَسْلمة، وقِصَّة عُمر حين توقَّف عن خبر أبي مُوسى في الاستئذان، حتَّى تابعه أبو سعيد.
وأُجيب عن ذلك كله: فأمَّا قِصَّة ذي اليدين، فإنَّما حصلَ التوقف في خبرهِ، لأنَّه أخبرهُ عن فعله صلى الله عليه وسلم، وأمر الصَّلاة لا يرجع المُصلِّى فيه إلى خبر غيره، بل ولو بلغُوا حد التواتر، فلعله إنَّما تذكَّر عند إخبار غيره، وقد بعث صلى الله عليه وسلم رُسله واحدًا واحدًا إلى المُلوك، ووفد عليه الآحاد من القبائل، فأرسلهُ إلى قبائلهم، وكانت الحجة قائمة بإخبارهم عنه، مع عدم اشتراط التعدد. وأمَّا قِصَّة أبي بكر، فإنَّما توقَّف إرَادة الزِّيادة في التوثق، وقد قَبِلَ خبر عائشة وحدها في قدر كفنِ النَّبي صلى الله عليه وسلم. وأمَّا قِصَّة عُمر، فإنَّ أبا مُوسى أخبرهُ بذلك الحديث، عقب إنكاره عليه رجُوعه، فأرادَ التثبت من ذلك، وقد قبلَ خبر ابن عوف وحدهُ في أخذ الجِزْية من المَجُوس، وفي الرُّجُوع عن البلد الَّذي فيها الطَّاعون، وخبر الضَحَّاك بن سُفيان في توريث امرأة أُشيم. قلتُ: وقد استدلَّ البَيْهقي في «المدخل» على ثُبوت الخبر بالواحد بحديث: «نضَّر الله عَبْدًا سَمِعَ مَقَالتي فوَعَاها فأدَّاها». وفي لفظ: «سَمِعَ مِنَّا حديثًا فبلَّغه غيرهُ». وبحديث «الصَّحيحين» بينما النَّاس بقُبَاء في صلاة الصُّبح إذ أتاهم آت فقال: إنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزلَ الله عليه الليلة قُرآنًا، وقد أمرَ أن تستقبلوا الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجُوههم إلى الشَّام، فاسْتداروا إلى الكعبة. قال الشافعي: فقد تركُوا قبلةً كانوا عليها بخبر واحد، ولم يُنكر ذلك عليهم صلى الله عليه وسلم. وبحديث «الصحيحين» عن أنس: إنِّي لقائم أسقي أبا طلحة، وفلانًا وفلانًا، إذ دخلَ رجل فقال: هل بلغكُم الخبر؟ قُلنا: وما ذاكَ؟ قال: حُرِّمت الخمر. قال: أهْرِق هذه القِلال يا أنس. قال: فما سألُوا عنها ولا راجعُوها بعد خبر الرَّجُل. وبحديث إرْسَاله عليًّا إلى الموقف بأوَّل سُورة براءة. وبحديث يزيد بن شَيْبان كنَّا بعرفة، فأتانا ابن مِرْبع الأنصاري فقال: إنِّي رَسُول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إليكُم، يأمركُم أن تقفُوا على مَشَاعركُم هذه. وبحديث «الصحيحين» عن سَلَمة بن الأكْوع: بعثَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم يوم عاشُوراء رَجُلا من أسْلم يُنَادي في النَّاس: «إنَّ اليَوْم يوم عَاشُوراء، فمن كَانَ أكلَ فلا يأكل شيئا...» الحديث، وغير ذلك. وقد ادَّعى ابن حبان نقيض هذه الدعوى فقال: إنَّ رواية اثنين، عن اثنين إلى أن ينتهي لا توجد أصلا. وسيأتي تقرير ذلكَ في الكلام على العزيز. ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادي: أنَّ بعضهم اشترط في قَبُول الخبر أن يرويه ثلاثة إلى مُنتهاه، واشْترط بعضهم أربعة عن أربعة، وبعضهم خمسة عن خمسة، وبعضهم سَبْعة عن سَبْعة. وإذا قيلَ: صَحيحٌ، فهذا معناهُ، لا أنَّه مَقْطُوعٌ به، وإذا قيلَ: غيرُ صحيح، فمعناهُ لم يصح إسْنَادهُ، والمُختار أنَّه لا يجْزم في إسْنَاد أنَّه أصح الأسَانيد مُطلقًا. وإذا قيل: هذا حديث صحيح، فهذا معناه أي: ما اتَّصلَ سنده مع الأوصاف المذكُورة فقبلناهُ عملاً بظاهر الإسْنَاد لا أنَّه مقطوع به في نفس الأمر، لِجَواز الخطأ والنِّسيان على الثِّقة، خلافًا لمن قال: إنَّ خبر الواحد يُوجب القَطْع، حكاهُ ابن الصبَّاغ عن قومٍ من أهل الحديث، وعزاهُ البَاجي لأحمد، وابن خُويز منداد لمالك، وإن نازعه فيه المازري بعدم وجود نص له فيه، وحكاه ابن عبد البرِّ عن حسين الكرابيسي، وابن حزم عن داود. وحكى السُّهيلي عن بعض الشَّافعية ذلك بشرط أن يكون في إسْنَاده إمام، مثل مالك وأحمد وسفيان، وإلاَّ فلا يُوجبه. وحكى الشَّيخ أبو إسحاق في «التبصرة» عن بعض المُحدِّثين ذلك في حديث مالك عن نافع عن ابن عمر وشبهه. أمَّا ما أخرجه الشَّيخان، أو أحدهما فسيأتي الكلام فيه. وإذا قيل: هذا حديث غير صحيح لو قال: ضعيف لكان أخصر وأسلم من دُخول الحسن فيه، فمعناه لم يصح إسناده على الشَّرط المذكور، لا أنَّه كذب في نفس الأمر، لِجَواز صدق الكاذب، وإصَابة من هو كثير الخطأ. والمُختار أنَّه لا يُجزم في إسناد أنَّه أصح الأسانيد مُطلقًا لأنَّ تفاوت مراتب الصِّحة مرتب على تمكن الإسناد من شُروط الصِّحة، ويعز وجُود أعلى درجات القَبُول في كلِّ واحد من رجال الإسناد الكائنين في ترجمة واحدة، ولهذا اضْطَرب من خاض في ذلك، إذ لم يكن عندهم استقراء تام، وإنَّما رجَّح كل منهم بحسب ما قَويَ عنده، خُصوصًا إسناد بلده، لكثرة اعْتنائه به. كمَا رَوَى الخَطِيب في «الجامع» من طريق أحمد بن سعيد الدَّارمي، سمعتُ محمود بن غيلان يقول: قيلَ لوكيع بن الجرَّاح: هِشَام بن عُروة عن أبيه عن عائشة، وأفلح بن حُميد عن القاسم عن عائشة، وسُفيان عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة، أيهم أحب إليك؟ قال: لا نعدل بأهل بلدنا أحدًا. قال أحمد بن سعيد: فأمَّا أنَا فأقُول: هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أحب إليَّ، هكذا رأيت أصحابنا يُقدِّمون. فالحُكم حينئذ على إسنادٍ مُعيَّن بأنَّه أصح على الإطلاق، مع عدم اتفاقهم ترجيح بغير مرجح. قال شيخ الإسلام: مع أنَّه يمكن للنَّاظر المُتقن ترجيح بعضها على بعض، من حيث حفظ الإمام الَّذي رجَّح وإتقانه، وإن لم يتهيأ ذلكَ على الإطلاق، فلا يخلُو النَّظر فيهِ من فائدة، لأنَّ مجموع ما نُقل عن الأئمة من ذلك يُفيد ترجيح التَّراجم الَّتي حَكمُوا لها بالأصحية، على ما لم يقع له حكم من أحد منهم.
تنبيه: عِبَارة ابن الصَّلاح: ولهذا نَرَى الإمْسَاك عن الحكم لإسْنَاد أو حديث بأنَّه أصح على الإطلاق. قال العَلائي: أمَّا الإسْنَاد فقد صرَّح جَمَاعة بذلك، وأمَّا الحديث فلا يُحفظ عن أحد من أئمة الحديث، أنَّه قال: حديث كذا أصح الأحاديث على الإطْلاق، لأنَّه لا يَلْزم من كَوْن الإسْنَاد أصح من غيره، أن يَكُون المتن كذلك، فلأجل ذلكَ ما خاضَ الأئمة إلاَّ في الحُكم على الإسْنَاد. وكأنَّ المُصَنِّف حذفهُ لذلك، لكن قال شيخ الإسْلام: سيأتي أنَّ من لازم ما قاله بعضهم: إنَّ أصح الأسَانيد ما رواه أحمد عن الشَّافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر، أن يكون أصح الأحاديث الحديث الَّذي رواه أحمد بهذا الإسناد، فإنَّه لم يرو في «مسنده» به غيره، فيَكُون أصح الأحاديث على رأي من ذهب إلى ذلك. قلتُ: قد جزمَ بذلكَ العلائي نفسه في عَوَالي مالك، فقال في الحديث المذكُور: إنَّه أصح حديث في الدُّنيا. وقيلَ: أصحُّها الزُّهري عن سَالم عن أبيه، وقيلَ: ابن سِيرينَ عن عَبيدة عن عليٍّ، وقيل: الأعْمش عن إبراهيم عن عَلْقَمة عن ابن مَسْعُود، وقيل: الزُّهري عن عليِّ بن الحُسَين عن أبيه عن عليٍّ، وقيل: مالك عن نافع عن ابن عُمر، فعلى هذا قيل: الشَّافعي عن مالك عن نافع عن ابن عُمر. وقيل أصحُّها مطلقا ما رواه أبو بكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزُّهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه وهذا مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه، صرح بذلك ابن الصَّلاح. وقيل أصحُّها محمَّد ابن سيرين عن عَبيدة السَّلماني بفتح العين عن علي بن أبي طالب، وهو مَذْهب ابن المديني والفلاَّس وسُليمان بن حرب، إلاَّ أن سُليمان قال: أجودها أيُّوب السِّخْتياني عن ابن سيرين، وابن المديني: عبد الله بن عون عن ابن سيرين، حكاه ابن الصَّلاح. وقيل: أصحها سليمان الأعمش عن إبراهيم بن يزيد النخعي عن علقمة بن قيس عن عبد الله بن مسعود وهو مذهب ابن معين، صرح به ابن الصَّلاح. وقيل أصحها الزُّهْري عن زين العابدين علي بن الحُسين عن أبيه الحُسين عن أبيه علي بن أبي طالب، حكاهُ ابن الصَّلاح عن أبي بكر بن أبي شيبة، والعِرَاقي عن عبد الرزاق. وقيل: أصحها مالك بن أنس عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر وهذا قول البُخَاري، وصدَّر العراقي به كلامه، وهو أمر تميل إليه النفوس وتنجذب إليه القلوب. روى الخَطِيب في «الكفاية» عن يحيى بن بُكير أنَّه قال لأبي زرعة الرَّازي: يا أبا زرعة ليس ذا زعزعة عن زوبعة، إنَّما ترفع السِّتر فتنظر إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم والصَّحابة، حدثنا مالك عن نافع عن ابن عُمر. فعَلَى هذا قيل عِبَارة ابن الصَّلاح: وبَنى الإمام أبو منصُور عبد القاهر بن طَاهر التَّميمي: أن أجل الأسَانيد الشَّافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر واحتجَّ بإجْمَاع أهل الحديث، على أنَّه لم يكن في الرُّواة عن مالك أجل من الشَّافعي. وبنى بعض المُتأخرين على ذلك أنَّ أجلها رواية أحمد بن حنبل عن الشافعي عن مالك، لاتفاق أهل الحديث على أنَّ أجل من أخذ عن الشَّافعي من أهل الحديث الإمام أحمد، وتُسمَّى هذه الترجمة سلسلة الذَّهب، وليسَ في «مُسنده» على كبره بهذه الترجمة سِوَى حديث واحد، وهو في الواقع أربعة أحاديث جمعها وسَاقها مساق الحديث الواحد، بل لم يقع لنَا على هذه الشريطة غيرها ولا خارج المسند. أخبرني شيخنا الإمام تقي الدين الشَّمني رحمه الله بقراءتي عليه، أخبرنا عبد الله بن أحمد الحنبلي، أخبرنا أبو الحسن العرضي، أخبرتنا زينب بنت مكي. (ح) وأخبرني عاليًا مُسْنِدُ الدُّنيا على الإطلاق أبو عبد الله محمد بن مقبل الحلبي مكاتبة منه، عن الصَّلاح ابن أبي عُمر المَقْدسي، وهو آخر من روى عنه، أخبرنا أبو الحسن بن البُخَاري، وهو آخر من حدث عنه، قالا: أخبرنا أبو علي الرصافي، أخبرنا هبةُ الله ابن محمد، أنبأنا أبو علي التميمي، أخبرنا أبو بكر القَطِيعي، أنبأنا عبد الله بن أحمد، حدَّثني أبي، أنبأنا محمد بن إدريس الشَّافعي، انبأنا مالك، عن نافع، عن ابن عُمر رَضِي الله عنهما، أنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَبِعْ بَعضكُم على بيعِ بَعْضٍ». ونَهَى عن النَّجْشِ، ونَهَى عن بَيْعِ حَبَلِ الحَبَلة، ونَهَى عن المُزَابنةِ. والمُزَابنةُ: بيع الثمر بالتَّمر كيلاً، وبيع الكَرْمِ بالزَّبيب كيلاً. أخرجه البُخَاري مُفرقًا من حديث مالك. وأخرجهَا مسلم من حديث مالك إلاَّ النَّهي عن حَبَل الحبلة، فأخرجه من وجه آخر.
تنبيهات: الأول: اعترضَ مَغْلطَاي على التميمي في ذكره الشَّافعي برواية أبي حنيفة عن مالك، إن نظرنا إلى الجلالة، وبابن وهب والقعنبي، إن نظرنا إلى الإتقان. قال البَلْقِيني في «محاسن الاصْطلاح»: فأمَّا أبو حنيفة فهو وإن روى عن مالك كما ذكره الدَّارقُطْني، لكن لم تشتهر رِوَايته عنه كاشتهار رواية الشَّافعي، وأمَّا القَعْنبي وابن وهب فأين تقع رُتبتهما من رُتبة الشَّافعي. وقال العِرَاقي، فيما رأيته بخطِّه: رواية أبي حنيفة عن مالك فيما ذكره الدَّارقطني في «غرائبه» وفي «المُدبج» ليست من روايته عن ابن عُمر، والمسألة مفروضة في ذلك، قال: نعم ذكر الخطيب حديثًا كذلك في الرِّواية عن مالك. وقال شيخ الإسلام: أمَّا اعتراضه بأبي حنيفة فلا يَحْسُن لأنَّ أبا حنيفة لم تثبت روايته عن مالك، وإنَّما أوردها الدَّارقطني، ثمَّ الخطيب لروايتين وقعتا لهما عنه بإسنادين فيهما مقال، وأيضًا فإنَّ رواية أبي حنيفة عن مالك إنَّما هي فيما ذكرهُ في المُذاكرة، ولم يقصد الرِّواية عنه كالشَّافعي، الَّذي لازمه مُدَّة طويلة، وقرأ عليه «الموطأ» بنفسه. وأمَّا اعتراضه بابن وهب والقَعْنبي، فقد قال الإمام أحمد: أنَّه سمع «الموطأ» من الشَّافعي بعد سَمَاعه له من ابن مهدي الرَّاوي عن مالك بكثرة، قال لأنِّي رأيتهُ فيه ثبتًا، فعلَّل إعادته لِسَماعه وتخصيصها بالشَّافعي بأمر يرجع إلى التثبت، ولا شكَّ أنَّ الشَّافعي أعلم بالحديث منهما. قال: نعم أطلقَ ابن المَدِيني أنَّ القعنبي أثبتَ النَّاس في «الموطأ» والظَّاهر أنَّ ذلكَ بالنسبة إلى الموجودين عندَ إطلاق تلكَ المَقَالة، فإنَّ القعنبي عاشَ بعد الشَّافعي مُدَّة، ويؤيد ذلك مُعارضة هذه المَقَالة بمثلها، فقد قال ابن معين مثل ذلك في عبد الله بن يوسف التِّنيسي. قال: ويُحتمل أن يَكُون وجه التقديم من جهة من سمع كثيرًا من «الموطأ» من لفظ مالك، بناء على أنَّ السَّماع من لفظ الشَّيخ أتقن من القِرَاءة عليه، وأمَّا ابن وهب فقد قال غير واحد: إنَّه غير جيد التحمُّل، فيحتاج إلى صحة النقل عن أهل الحديث، إن كان أتقن الرُّواة عن مالك، نعم كان كثير اللزوم له. قال: والعَجَب من تَرْديد المُعترض من الأجلية والأتقنية، وأبو منصُور إنَّما عبَّر بأجل، ولا يشك أحد أنَّ الشَّافعي أجل من هؤلاء، لمَا اجتمع له من الصِّفات العَلِية المُوجبة لتقديمه، وأيضًا، فزيادة إتْقَانه لا يشك فيها من له علم بأخبار النَّاس، فقد كانَ أكابر المُحدِّثين يأتُونه فيُذَاكرونه بأحاديث أشكلت عليهم، فيبين لهم ما أشكل ويُوقفهم على علل غامضة، فيقُومون وهم يتعجبون، وهذا لا يُنازع فيه إلاَّ جاهل، أو مُتغافل. قال: لكن إيراد كلام أبي منصور في هذا الفصل فيه نظر، لأنَّ المُراد بترجيح ترجمة مالك عن نافع عن ابن عمر على غيرها، إن كان المُراد به ما وقع في «الموطأ» فرواته فيه سواء من حيث الاشتراك في رواية تلك الأحاديث، ويتم ما عبَّر به أبو منصور من أنَّ الشافعي أجلهم، وإن كان المُراد به أعم من ذلك، فلا شكَّ أنَّ عند كثير من أصحاب مالك من حديثه خارج «الموطأ» ما ليس عند الشَّافعي، فالمُقَام على هذا مقام تأمُّل، وقد نُوزع في أحمد بمثل ما نُوزع في الشافعي من زيادة المُمَارسة والمُلازمة لغيره، كالرَّبيع مثلاً، ويُجَاب بمثل ما تقدَّم. الثاني: ذكر المُصنِّف تبعًا لابن الصَّلاح في هذه المسألة خمسة أقوال، وبقي أقوال أُخر. فقال حجَّاج بن الشَّاعر: أصح الأسانيد شُعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب، يعني عن شيوخه، هذه عبارة شيخ الإسلام في «نكته». وعبارة الحاكم: قال حجَّاج: اجتمع أحمد بن حنبل وابن معين وابن المَدِيني في جماعة معهم، فتذاكروا أجود الأسَانيد، فقال رجل منهم: أجود الأسانيد شُعبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن عامر أخي أم سلمة عن أم سلمة، ثمَّ نقل عن ابن معين وأحمد ما سبق عنهما. وقال ابن معين: عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة ليس إسناد أثبت من هذا، أسنده الخطيب في «الكفاية». قال شيخ الإسلام ابن حجر: فعلى هذا لابن معين قولان. وقال سُليمان بن داود الشَّاذكوني: أصح الأسانيد يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هُريرة. وعن خلف بن هشام البَزَّار: قال سألتُ أحمد بن حنبل: أي الأسانيد أثبت؟ قال أيُّوب عن نافع عن ابن عمر، فإن كان من رواية حمَّاد بن زيد عن أيُّوب فيالكَ. قال ابن حجر: فلأحمد قولان. وروى الحاكم في «مستدركه» عن إسْحَاق بن راهويه قال: إذا كان الرَّاوي عن عَمرو بن شُعيب عن أبيه عن جدِّه ثقة، فهو كأيُّوب عن نافع عن ابن عُمر. وهذا مُشعر بجلالة إسناد أيُّوب عن نافع عنده. وروى الخطيب في «الكِفَاية» عن وكيع قال: لا أعلم في الحديث شيئا أحسن إسْنَادًا من هذا: شعبة عن عَمرو بن مُرَّة عن مرة عن أبي موسى الأشْعَري. وقال ابن المُبَارك والعِجْلي: أرْجَح الأسَانيد وأحسنها: سُفيان الثَّوري عن منصُور عن إبراهيم عن عَلْقمة عن عبد الله بن مسعود، وكذلك رجَّحها النَّسائي. وقال النَّسائي: أقْوَى الأسَانيد التي تُروى... فذكر منها الزُّهري عن عُبيد الله بن عبد الله بن عُتبة عن ابن عبَّاس عن عُمر. ورجَّح أبو حاتم الرَّازي ترجمة يحيى بن سعيد القَطَّان عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عُمر. وكذا رجَّح أحمد رِوَاية عُبيد الله عن نافع على رِوَاية مالك عن نافع. ورجَّح ابن معين ترجمة يحيى بن سعيد عن عُبيد الله بن عمر عن القاسم عن عائشة. الثالث: قال الحاكم: ينبغي تَخْصيص القول في أصح الأسَانيد بصحابي أو بلد مخصُوص، بأن يُقَال أصح إسناد فُلان أو الفُلانيين كذا، ولا يُعمم. قال: فأصح أسانيد الصِّديق: إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عنه. وأصح أسانيد عُمر: الزُّهري عن سالم عن أبيه عن جدِّهِ. وقال ابن حزم: أصح طريق يُروى في الدُّنيا عن عُمر: الزُّهْري عن السَّائب بن يزيد عنه. قال الحاكم: وأصح أسانيد أهل البيت: جعفر بن محمَّد بن علي بن الحسين بن علي عن أبيه عن جده عن علي، إذا كان الرَّاوي عن جعفر ثقة. هذه عبارة الحاكم، ووافقه من نقلها، وفيها نظر، فإنَّ الضمير في جده إن عاد إلى جعفر فجده عليِّ لم يسمع من علي بن أبي طالب، أو إلى محمَّد فهو لم يسمع من الحُسين. وحكى الترمذي في الدَّعوات عن سليمان بن داود أنَّه قال في رواية الأعرج عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي: هذا الإسناد مثل الزُّهْري عن سالم عن أبيه. ثمَّ قال الحاكم: وأصح أسانيد أبي هُريرة: الزُّهْري عن سعيد بن المسيب عنه. وروى قبل عن البُخَاري: أبو الزِّناد عن الأعرج عنه. وحكى غيره عن ابن المديني: من أصح الأسانيد حماد بن زيد عن أيُّوب عن محمَّد بن سيرين عن أبي هُرَيْرة. قال: وأصح أسانيد ابن عُمر: مالك عن نافع عنه. وأصح أسانيد عائشة: عُبيد الله بن عُمر عن القاسم عنها. قال ابن معين: هذه ترجمة مُشَبكة بالذَّهب. قال: ومن أصح الأسانيد أيضًا الزُّهْري عن عروة بن الزُّبير عنها. وقد تقدَّم عن الدَّارمي قول آخر. وأصح أسانيد ابن مسعود: سُفيان الثَّوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عنه. وأصح أسانيد أنس: مالك عن الزُّهْري عنه. قال شيخ الإسلام: وهذا مِمَّا يُنازع فيه، فإنَّ قتادة وثابتًا البُنَاني أعرف بحديث أنس عن الزُّهْري، ولهُمَا من الرُّواة جماعة، فأثبت أصْحَاب ثابت: حماد بن زيد، وقيل: حمَّاد بن سلمة، وأثبت أصحاب قتادة: شعبة، وقيل: هشام الدَّستوائي. وقال البَزَّار: رواية عليِّ بن الحسين بن علي عن سعيد بن المُسيب عن سعد بن أبي وقَّاص، أصح إسناد يُروى عن سعد. وقال أحمد بن صالح المصري: أثبت أسانيد أهل المدينة: إسْمَاعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سُفيان عن أبي هُرَيْرة. قال الحاكم: وأصح أسَانيد المَكِّيين: سُفيان بن عُيينة عن عَمرو بن دينار عن جابر. وأصح أسَانيد اليَمَانين: مَعْمَر عن همَّام عن أبي هُريرة. وأثبت أسانيد المصريين: الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن عُقْبة بن عامر. وأثبت أسانيد الخُرَاسانيين: الحسين بن واقد عن عبد الله بن بُريدة عن أبيه. وأثبت أسانيد الشَّاميين: الأوزاعي عن حسَّان بن عَطِية عن الصَّحابة. قال شيخ الإسْلام ابن حجر: ورجَّح بعض أئمتهم رِوَاية سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد عن أبي إدريس الخَوْلاني عن أبي ذر. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه: ليسَ بالكُوفة أصح من هذا الإسْنَاد: يحيى بن سعيد القطَّان عن سُفيان الثَّوري عن سُليمان التيمي عن الحارث بن سُويد عن علي. وكان جَمَاعة لا يُقدِّمُون على حديث الحِجَاز شيئا حتَّى قال مالك: إذا خرج الحديث عن الحجاز انقطع نُخَاعه. وقال الشَّافعي: إذا لم يُوجد للحديث من الحجاز أصل ذهب نُخَاعه، حكاهُ الأنْصَاري في كتاب «ذم الكلام». وعنه أيضًا: كل حديث جاء من العِرَاق، وليسَ له أصل في الحجاز، فلا يُقبل وإن كان صحيحًا، ما أُريد إلاَّ نصيحتك. وقال مِسْعر: قلتُ لحبيب بن أبي ثابت: أيُّما أعلم بالسُّنة، أهل الحجاز، أم أهل العراق؟ فقال: بل أهل الحِجَاز. وقال الزُّهْري إذا سمعت بالحديث العِرَاقي فأورد به، ثمَّ أورد به. وقال طاووس: إذا حدَّثك العراقي مئة حديث، فاطرح تسعة وتسعين. وقال هِشَام بن عُروة: إذَا حدَّثك العِرَاقي بألف حديث، فألق تسع مئة وتسعين وكُن من الباقي في شك. وقال الزُّهْري: إنَّ في حديث أهل الكُوفة دغلا كثيرًا. وقال ابن المُبَارك: حديث أهل المدينة أصح، وإسنادهم أقرب. وقال الخطيب: أصح طُرق السُّنن ما يرويه أهل الحرمين مكَّة والمَدِينة، فإن التَّدليس عنهم قليل، والكذب ووضع الحديث عندهم عزيز. ولأهل اليمن روايات جيدة وطرق صحيحة، إلاَّ أنَّها قليلة، ومرجعها إلى أهل الحجاز أيضًا. ولأهل البَصْرة من السُّنن الثابتة بالأسانيد الواضحة، ما ليسَ لغيرهم مع إكثارهم. والكُوفيون مثلهم في الكَثْرة، غير أنَّ رواياتهم كثيرة الدَّغل، قليلة السَّلامة مع العلل. وحديث الشَّاميين أكثره مراسيل ومَقَاطيع، وما اتَّصل منهُ مِمَّا أسندهُ الثِّقات، فإنَّه صالح، والغالبُ عليه ما يتعلق بالمواعظ. وقال ابن تيمية: اتَّفق أهل العلم بالحديث على أنَّ أصح الأحاديث ما رواه أهل المدينة، ثمَّ أهل البَصْرة ثمَّ أهل الشَّام. الرَّابع: قال أبو بكر البَرْديجي: أجْمَعَ أهل النَّقل على صِحَّة أحاديث الزُّهْري عن سَالم عن أبيه، وعن سعيد بن المُسيب عن أبي هُرَيْرة من رواية مالك وابن عُيينة ومَعْمر والزُّبيدي ويُونس وعُقيل ما لَمْ يختلفوا، فإذا اختلفوا تُوقف فيه. قال شيخ الإسلام: وقضية ذلك أن يجري هذا الشَّرط في جميع ما تقدَّم، فيُقال: إنَّما يُوصف بالأصحية حيث لا يكون هناك مانع من اضْطراب أو شذوذ.
فوائد: الأولى: تقدَّم عن أحمد أنَّه سمع «المُوطأ» من الشَّافعي، وفيه من روايته عن نافع عن ابن عمر العدد الكثير، ولم يتَّصل لنا منه إلاَّ ما تقدم. قال شيخ الإسلام في أماليه: لعلَّه لم يُحدِّث به، أو حدَّث به وانقطع. الثانية: جمع الحافظ أبو الفضل العِرَاقي في الأحاديث الَّتي وقعت في «المسند» لأحمد و«الموطأ» بالتراجم الخمسة التي حكاها المُصنِّف، وهي المُطْلقة وبالتراجم الَّتي حَكَاها الحاكم، وهي المُقَيدة، ورتَّبها على أبواب الفِقْهِ وسمَّاها «تقريب الأسَانيد». قال شيخ الإسْلام: وقد أخْلَى كثيرًا من الأبواب، لكونه لم يجد فيها تلك الشريطة، وفاتهُ أيضًا جُملة من الأحاديث على شرطهِ، لكونهِ تقيَّد بالكِتَابين للغرضِ الَّذي أرادهُ من كون الأحاديث المذكُورة تصير مُتَّصلة الأسانيد مع الاختصار البالغ، قال: ولو قدر أن يتفرَّغ عارف لجمع الأحاديث الواردة بجميع التراجم المذكُورة من غير تقييد بكتاب، ويضم إليها التَّراجم المزيدة عليه، لجَاء كتابًا حافلاً حاويًا لأصح الصَّحيح. الثالثة: مِمَّا يُنَاسب هذه المَسْألة: أصح الأحاديث المُقيدة، كقولهم: أصح شيء في الباب كذا، وهذا يُوجد في «جامع» الترمذي كثيرًا، وفي «تاريخ» البُخَاري وغيرهما. وقال المُصنِّف في «الأذكار»: لا يَلْزم من هذه العِبَارة صِحَّة الحديث، فإنَّهم يَقُولون: هذا أصح ما جَاء في البَاب، وإن كانَ ضعيفًا، ومُرادهم أرجحهُ، أو أقلَّه ضعفًا، ذكر ذلكَ عقب قول الدَّارقُطني: أصح شيء في فضائل السور، فضل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وأصح شيء في فَضَائل الصَّلوات فضل صَلاة التسبيح، ومن ذلك أصح مُسلسل، وسيأتي في نوع المُسلسل. الرابعة: ذكر الحاكم هُنا، والبَلْقيني في «محاسن الاصْطلاح»: أوهى الأسَانيد مُقَابلة لأصح الأسانيد، وذِكْرهُ في نوع الضَّعيف أليق، وسيأتي إن شاء الله تعالى.
|